
مهندس «الصناعة الجهادية»: بريجنسكي في سيرة جديدة
صبحي حديدي
حرير- في الصفحات الأخيرة من كتابه «زبيغ: حياة زبغنيو بريجنسكي، نبيّ أمريكا الحرب الباردة»، أي في ختام مجلد من 560 صفحة صدر مؤخراً بالإنكليزية عن منشورات «سايمون آند شوستر» في نيويورك؛ يُدرج مؤلف الكتاب، الصحافي والكاتب السياسي البريطاني ـ الأمريكي إدوارد لوس، سلسلة من الصور الفوتوغرافية. وليس اعتباطاً أنه اختار صورة تجمع بريجنسكي (1928ـ2017) مع رئيس وزراء دولة الاحتلال الأسبق مناحيم بيغن، تُظهر الثاني وهو يُطلع الأول على وثائق تثبت الخدمات التي قدّمها جدّ بريجنسكي لتسهيل هجرة اليهود البولنديين. صورة ثانية تلتقط بريجنسكي يلعب الشطرنج مع بيغن أيضاً، في كامب دافيد، أيلول (سبتمبر) 1978، حيث كانت تُطبخ الاتفاقيات الشهيرة بين مصر ودولة الاحتلال.
ولأنّ لوس حصل من أسرة بريجنسكي على تفويض كامل بقراءة أوراق الأخير ومذكراته وملاحظاته، فقد أمكن له كتابة سيرة تتوخى روحية السرد القصصي أكثر من توثيق محطات الولادة والنشأة والدراسة والعمل الأكاديمي والمهامّ السياسية؛ وصولاً، بالطبع، إلى موقع مستشار الأمن القومي في إدارة جيمي كارتر. على سبيل المثال، في واحدة من هوامشه دوّن انطباع كارتر عن التشابه الكبير بين بريجنسكي وبيغن، معتبراً ذلك تحية له رغم تنويهه مراراً بأنّ كارتر كان يبغض بيغن! في هامش آخر يروي بريجنسكي طرفة عن غيرة هنري كيسنجر منه، رغم التباعد بينهما على صعيد العمل والمهامّ والمسؤوليات. وبهذا المعنى فإنّ قراءة الكتاب تنطوي، بالفعل، على مزيج من المتعة والتشويق، خاصة في الفصول (السادس مثلاً) التي تعكس براعة بريجنسكي في مصالحة النقائض داخل الغابة الشائكة لسياسات الولايات المتحدة الخارجية.
أحد أوضح الأمثلة كان الخيار الذي اعتمده بريجنسكي في قراءة صعود بيغن واليمين الإسرائيلي في سنة 1977، بعد 20 سنة متعاقبة من حكم «حزب العمل»؛ إذْ خالف معظم أفراد فريق كارتر، والرئيس نفسه أيضاً، في تشاؤمهم من أنّ هيمنة «الليكود» على السلطة سوف تفسد مساعي السلام التي توصلت إليها الإدارة مع الرئيس المصري أنور السادات. ولقد ساجل بريحنسكي بأنّ بيغن، ورغم أصوله الأشكنازية، لم يحصل على معظم أصوات اليهود السفارديم إلا لأنهم وجدوا في شخصيته ما يشفي غليل تشددهم ضدّ العرب؛ وبالتالي فإنّ هذا اليميني، سليل عصابات الأرغون والمخطط لتفجير مقرّ قيادة القوات البريطانية في فندق الملك داود، واغتيال الكونت برنادوت، هو الأفضل تفويضاً بعقد اتفاقية سلام مع مصر.
في الفصل 11، الذي يحمل العنوان الدالّ «معارك خريفية»، يتناول لوس قسطاً غير قليل من أضاليل إدارة جورج بوش الابن قبيل غزو العراق، ويتوقف عند أكذوبة كولن بأول أمام مجلس الأمن الدولي والخطاب المسرحي حول إثبات امتلاك العراق لأسلحة الدمار الشامل. في البدء صدّق بريجنسكي الخطاب وامتدحه، ثمّ انقلب عليه حين تكشّفت سلسلة ملابسات (على رأسها منع مفتشي الأمم المتحدة من زيارة المواقع «المشبوهة» لأنّ قرار الحرب كان قد اتُخذ للتو).
لكن قارئ لوس يحظى منه بمزيد من التفاصيل، القديمة/ المتجددة، حول تعمّد فريق نائب الرئيس ديك شيني إدخال فقرات في الخطاب دون علم باول، وفقرات أخرى في خطاب مستشارة الأمن القومي كوندوليزا رايس لم تكتبها. الزمن القصير اللاحق شهد جزم بريجنسكي بأنّ «أخطاء الحرب في ذلك البلد لم تكن تكتيكية وستراتيجية فحسب، بل تاريخية أيضاً. إنها، جوهرياً، حرب استعمارية، خيضت في عصر ما بعد ـ استعماري»! خلاصة بدت صاعقة لأنها أتت من هذا القائل دون سواه، صاحب الأطروحة الشهيرة: أنّ الواقع العالمي بعد الحرب الباردة وهزّة 9/11، وضع الولايات المتحدة في موقع فريد لأمّة قادرة على تأمين الاستقرار العالمي من خلال السيطرة العسكرية، وقادرة في الآن ذاته على تهديده من خلال الوسيلة العسكرية إياها.
بريجنسكي هو أيضاً ذلك السياسي الذي تنطّح على الدوام لاحتلال صفة المفكر السياسي، خاصة في كتابه «الانفلات من العقال: حول الاهتياج الكوني عشية القرن الحادي والعشرين»، 1993؛ حيث ساجل بأنّ التاريخ لم ينته بعدُ على طريقة فرنسيس فوكوياما، بل انضغط وتكثّف على طريقة بسمارك. وبينما شهد الماضي بروز الأحقاب جنباً إلى جنب وبتباين حادّ بعض الشيء يتيح تكوين معنى ما للتقدّم التاريخي، فإننا اليوم نشهد سيرورة مركبة من الانقطاعات الحادة التي تتصادم فيما بينها، وتكثف إحساسنا بالمنظور الراهن إلى درجة منعنا من تكوين إدراك إوالية التطوّر ذاتها.
إلى هذه الملفات وسواها، قد تكون «مأثرة» بريجنسكي الأبرز هي استحقاقه لقب المهندس الأبرع وراء توريط الاتحاد السوفييتي في أفغانستان، ثمّ ابتكار ما سيُعرف لاحقاً تحت تسمية «الصناعة الجهادية»؛ تلك التي أنتجت الطالبان، والأفغان العرب، وأسامة بن لادن، و«القاعدة»… وتتمة المسمّيات التي سينشغل بها الغرب، وتطلق صناعة أخرى موازية سُمّيت «الحملة ضدّ الإرهاب». لوس لا يقرّ كثيراً، ولكنه لا يستبعد تماماً، الأطروحة التي تقول إنّ بريجنسكي ورّط الزعيم السوفييتي ليونيد بريجنيف في مشروع أفغاني سوف يتكفل بتقويض الاتحاد السوفييتي تباعاً؛ ولكنه يلتزم بواجبات كاتب السيرة في ربط قراءته بالبراهين. في طليعتها ذلك الحوار الصاعق الذي نشرته أسبوعية «لو نوفيل أوبسرفاتور» الفرنسية سنة 1998، وفي سطوره يعترف بريجنسكي بأنّ البيت الأبيض هو الذي استدرج السوفييت ودفعهم إلى خيار التدخّل العسكري، وذلك بعد إحباط مخططات المخابرات المركزية الأمريكية لتنظيم انقلاب عسكري في أفغانستان.
وفي ذلك الحوار يقول بريجنسكي أنه غير نادم على تلك العملية: «أندم على ماذا؟ تلك العملية السرّية كانت فكرة ممتازة. وكانت حصيلتها استدراج الروس إلى المصيدة الأفغانية، وتريدني أن أندم عليها؟ يوم عبر السوفييت الحدود رسمياً، كتبتُ مذكرة إلى الرئيس كارتر أقول فيها ما معناه: الآن لدينا الفرصة كي نعطي الاتحاد السوفييتي حرب فييتنام الخاصة به». ولكن، يسأله الصحافي الفرنسي فانسان جوفير، ألا يندم أيضاً على دعم الأصولية الإسلامية، وتدريب وتسليح إرهابيي المستقبل؟ يجيب بريجنسكي: «ما هو الأكثر أهمية من وجهة تاريخ العالم: الطالبان، أم سقوط الإمبراطورية السوفييتية؟ بعض الغلاة الإسلاميين، أم تحرير أوروبا الشرقية ونهاية الحرب الباردة»؟
وثمة «فلسفة» أيضاً خلف تأويل هذه المصيدة المفترضة، أتت من مستشار أمن قومي أسبق عُدّ أحد كبار المتفلسفين حول شؤون السياسة الخارجية الأمريكية، والظواهر الجيو ـ سياسية عموماً، وأقدار الولايات المتحدة/ الغرب ما بعد تفكيك الاتحاد السوفييتي وانتهاء الحرب الباردة. وهكذا، يسأله الصحافي الفرنسي: ألا يُقال ويُعاد القول إنّ الأصولية الإسلامية تمثّل اليوم خطراً عالمياً؟ يردّ بريجنسكي: «كلام فارغ! يُقال لنا إنه ينبغي على الغرب اعتماد سياسة متكاملة تجاه النزعة الإسلامية. هذا غباء: لا توجد إسلامية عالمية. فلننظر إلى الإسلام بطريقة عقلانية لا ديماغوجية أو عاطفية. إنه الدين الأوّل في العالم، وثمة 1.5 مليار مؤمن. ولكن ما هو الجامع بين أصوليي المملكة العربية السعودية، والمغرب المعتدل، والباكستان العسكرية، ومصر المؤيدة للغرب أو آسيا الوسطى العلمانية؟ لا شيء أكثر ممّا يوحّد بلدان الديانة المسيحية».
وأتباع هذه الديانة المسيحية، كاثوليكية المذهب تحديداً، هم أوائل الذين أصابهم الإحباط لقرار بربجنسكي حرق جثمانه بدل دفنه حسب الأعراف الدينية؛ الأمر الذي يعلّق عليه لوس هكذا، في السطر الأخير من كتابه: «لا يوجد قبر. لا توجد شاهدة. لعله لا تتوفر عبارة تثبّت هذه الروح القلقة».