
السودان: كيف نفهم العقوبات الأمريكية الأخيرة؟
د. مدى الفاتح
حرير- اللافت بشأن ردود الأفعال، التي تناولت موضوع العقوبات، التي أعلنها الأمريكيون مؤخرا ضد السودان، نتيجة لاتهام الحكومة باستخدام السلاح الكيميائي في حربها ضد المتمردين، أن أغلب المعلقين كانوا يتفقون على أن هذه الاتهامات سياسية، أكثر من كونها منطلقة من أسس فنية أو دواعٍ إنسانية.
لا يقتصر هذا على المحللين المحليين، بل ينسحب حتى على محللين دوليين، مثل الأمريكي المتخصص في الشأن السوداني، والمتابع منذ سنوات لتطورات الأوضاع في ذلك البلد، كاميرون هدسون. الخبير الأمريكي كان لفت في منشور له إلى التشابه بين هذا الاتهام، الذي لم يستند إلى أدلة واضحة، واتهام السودان في نهاية التسعينيات بصنع أسلحة محرمة، ما نتج عنه قصف الأمريكيين لمبنى تأكد لاحقا أنه مجرد مصنع للأدوية.
الحديث عن تسييس العقوبات الأمريكية ليس جديدا، أو شيئا فرضه تحليل الحدث السوداني، بل إن الجميع يعلم أن «شرطي العالم» كان سيغض الطرف، حتى لو كانت هذه المزاعم صحيحة، إذا ما كانت مصلحته تقتضي ذلك، وهو ما يحدث في علاقة الولايات المتحدة بكثير من الدول، المعروفة بانتهاكاتها لحقوق الإنسان، لكن التي تُعتبر، في الوقت ذاته، شريكا لا يمكن إغضابه. ثمة ملاحظة أخرى لا يمكن إغفالها بشأن هذه الاتهامات وهي، أنها لم تصدر من جانب المتمردين، الذين كان من مصلحتهم، وهم يبحثون عن أي شيء يشوه صورة الجيش الذي يقاتلونه، أن يفضحوا انتهاكا كبيرا كهذا. لم تتحدث الميليشيا والمنظمات المساندة لها، والتي لا تدخر وسعا في سبيل تسليط الضوء على وقوع ضحايا من المدنيين، نتيجة للقصف أو الاشتباك، للغرابة، عن سقوط ضحايا في أي وقت سابق نتيجة للتعرض لسلاح كيميائي. إذا أخذنا كل ذلك بعين الاعتبار، فإنه سيكون من غير المفيد التركيز على الجانب الفني والإجرائي في تفنيد هذه المزاعم. هذا لا يعني أن على اللجان الفنية الوطنية أن لا تتابع عملها وتنسيقها مع منظمة حظر الأسلحة الكيميائية، التي يتمتع السودان بعضويتها، وإنما المقصود لفت النظر إلى أن الأمر ليس تقنيا محضا، وإنما له جوانب سياسية قد تكون من أهمها محاولة الإدارة الأمريكية الضغط على الحكومة أو العمل على فرض أجندة معينة عليها.
يقود هذا إلى سؤال محوري لا مناص منه، وهو المتعلق بتوقيت إعلان هذه العقوبات، التي تتحدث عن انتهاكات حدثت في العام الماضي. هذا السؤال هو: لماذا خرجت هذه الاتهامات الآن بالتزامن مع تقلص المساحة، التي كانت تخضع لسيطرة المتمردين؟ للتذكير، فقد كان الجيش يحقق نجاحات عسكرية مهمة إبان صدور بيان العقوبات الأمريكي. كان أهم تلك النجاحات التحرير الكامل للعاصمة الخرطوم، وهو الهدف، الذي كان يبدو بعيدا وصعب المنال قبل عام واحد من اليوم.
هذا السؤال يعيدنا إلى الوصف، الذي كنا أطلقناه على الحرب في مقال سابق، حيث سميناها «حرب المجتمع الدولي في السودان». هذه التسمية كان الغرض منها تجاوز الطريقة المبسطة للنظر إلى الصراع، وكأنه صراع محلي بين فصيلين عسكريين، حيث إن الواقع لا يخبرنا فقط أن هناك تدخلات دولية لولاها لما كانت الحرب قد طالت وتعقدت يومياتها، بل يكاد المتابعون يصلون إلى قناعة مفادها، أن الأصل هو أجندة هذه القوى الدولية، التي توظف كل هذه المجريات، والتي تريد بشكل أو بآخر الوصول إلى معادلة معينة متعلقة بسياسة وجغرافيا المنطقة.
أهم ركن، أو هدف يمكن رؤيته لهذه المعادلة هو إضعاف القوة العسكرية الصلبة للبلد، الذي استثمر لعقود في بنيته الدفاعية مدفوعا بظروف الحروب الداخلية والتهديدات الأمنية المستمرة. هذا الاستثمار، الذي كان لا مفر منه، والذي وصل حد الابتكار، وتوطين صناعة أنواع مختلفة من الأسلحة والذخائر، جعل كثيرا من الأطراف الإقليمية المهمة تنظر إلى السودان بتوجس، لاسيما وأن مسؤوليه كانوا يتبنون ولوقت طويل خطابا فيه كثير من التهديد والوعيد والتحدي. تحقق هذا الإضعاف عبر هذه الحرب الشرسة، من دون تدخل دولي مباشر، حيث فقد الجيش مصانعه الحربية، وجزءا كبيرا من ترسانته العسكرية، في حين فقدت القوة المساندة الأهم (الدعم السريع)، التي كان الجيش استثمر فيها مبالغ كبيرة من أجل تأهيل أفرادها وتوفير معداتها، كل ما كانت تملكه من عناصر فارقة، لدرجة أنها أصبحت رهينة الاستنفار القبلي.
نظر القوى الدولية إلى اليوميات السودانية وكأنها لعبة تستدعى المراقبة، ظاهر في التعامل مع تداعيات الصراع. الولايات المتحدة، على سبيل المثال، تشترك في هذه اللعبة عن طريق الإيحاء بالتعاطف، خاصة حينما يصل الأمر للتعبير عن رفضها لحكم الميليشيات، ولإدانتها بشكل واضح لانتهاكات «الدعم السريع»، بل يصل بها الأمر لفرض عقوبات رادعة على قادته، ما يوحي لوهلة بأنها حسمت موقفها.
المشكلة هي أن هذا الانحياز الظاهري لا يستمر طويلا، أما فرحة المؤيدين للجيش، فلن تلبث أن تنطفئ حينما ينتبه أولئك إلى أن هذه القوى العظمى، لا تريد أن تسمح للجيش بأن يعيد تسليح نفسه، بما يساعده على تحقيق انتصار سريع، بل إنها لا تريد حتى أن تمارس ضغطا على الدول الحليفة للتمرد من أجل إيقاف دعمها، ليس هذا فقط، بل إن سيف العقوبات لا يلبث أن يتسلط على رقاب قيادات عسكرية، ما يوحي بأن الأمريكيين، ومن ورائهم كل من لا يخرج عن طاعتهم، لا يفرقون كثيرا في الواقع، بين من يعتبرونهم مجرد «طرفي صراع». هذه الرغبة الدولية في «إدارة الصراع» عوّضا عن إنهائه وحسمه، تجعلنا ننظر للدول الإقليمية، التي يصب باتجاهها غضب شعبي كبير، بسبب دعمها للمتمردين، بشكل مختلف، حيث ننتبه إلى أن هذه الدول ليست بالقوة، التي تجعلها تنخرط في نزاع كبير، من دون موافقة وتنسيق مع قوى كبرى تتعامل بذكاء وبشكل لا يجعلها تظهر في الصورة.
كان بعض المحللين يقولون إنه يجب فتح خطوط للحوار، ليس مع الميليشيا، التي لا تملك من أمرها شيئا، والتي هي مجرد أداة، وإنما مع الداعمين من دول الجوار، الذين لولاهم لما استطاعت الحصول على الأسلحة والدعم.
هذا مدخل جيد من ناحية المبدأ، فعلى الأقل هو يتفق مع ما ذكرناه، أن الأمر لم يعد يتعلق بالجنرال المنشق محمد حمدان دقلو «حميدتي» وطموحاته الشخصية في الحكم، إلا أنه يمكن الذهاب بنظرنا إلى ما هو أبعد، بالقول إن هذا الحوار يجب أن يبدأ بمستوى أعلى عبر طرق أبواب ذلك «المجتمع الدولي»، وبدء حوار يتأسس على محاولة إقناع الدول المؤثرة بأن تطرح مطالبها بشكل مباشر، وأن تكف عن استخدام الوكلاء في الوقت الذي تلعب فيه دور المراقب المحايد. المفارقة هي أنه، وفي الوقت الذي، كانت الولايات المتحدة تفرض فيه عقوبات جديدة على الحكومة السودانية، فإنها كانت ترفع عقوبات سابقة على مؤسسات حكومية سورية، وعلى الرئيس السوري أحمد الشرع، الذي كان قائدا لمجموعة مصنفة «إرهابية».
هذه المقاربة، التي يصعب تجاوزها، تجعل منطق التبسيط والتحجج بالخلفية الإسلامية لبعض القادة العسكريين والسياسيين السودانيين غير كافٍ للإجابة عن السؤال المهم وهو: لماذا ما زال يُنظر إلى هذا البلد، حتى بعد سنوات من سقوط نظام البشير، كتهديد؟