
حزب العمال الكردستاني: نهاية حقبة تاريخية طويلة
بكر صدقي
حرير- من المحتمل أننا نشهد نهاية صراع مسلح امتد عقوداً، لا يخص تركيا وحدها بل له امتدادات إقليمية في الدول المجاورة، العراق وسوريا وإيران، من غير أن ننسى تدخلات دولية أخرى استثمرت فيه لصالح أجندات تخصها. فقد أعلن حزب العمال الكردستاني، في بيان مطوّل، أنه عقد مؤتمره العام الثاني عشر وقرر فيه التخلي عن السلاح وحل نفسه تنظيمياً، مبرراً هذه الخطوة بأن الكفاح المسلح قد استنفد أسباب وجوده بعدما حقق إنهاء سياسة إنكار الهوية القومية الكردية التي اتبعتها الدولة التركية الحديثة منذ قيامها، ونالت القضية الكردية اعترافاً في الرأي العام كمسألة يجب السعي من أجل حلها. كذلك لأن عصر الكفاح المسلح للشعوب قد انتهى، وبات النضال السلمي لتحقيق تطلعاتها هو الأكثر نجاعة.
وجاءت هذه الخطوة في نهاية مسار أطلقه زعيم حزب الحركة القومية التركي دولت بهجلي، في تشرين الأول الماضي، دعا فيه عبد الله أوجلان للحضور إلى البرلمان وإطلاق نداء لحزبه يطالبه فيه بالتخلي عن السلاح وحل نفسه. وتلقف حزب المساواة والديمقراطية، ممثل الكرد في البرلمان، هذه المبادرة فشكل وفداً قام بعدة زيارات إلى جزيرة إيمرالي حيث قابل الزعيم التاريخي لحزب العمال الكردستاني عبد الله أوجلان للتباحث حول مبادرة بهجلي، لتنتهي تلك المباحثات إلى توجيه أوجلان نداءه الشهير إلى حزبه، في 27 شباط الماضي، مطالباً الحزب فيه بعقد مؤتمر يتخذ القرار بإلقاء السلاح وحل نفسه. وافقت قيادة الحزب المتمركزة في جبل قنديل في شمال العراق على مطالب أوجلان وطالبت الدولة التركية بتوفير الشروط اللازمة لأوجلان ليتمكن من قيادة المؤتمر. لا نعرف على وجه الدقة هل تم توفير تلك الشروط وكيف، فثمة تكهنات حول مشاركته في المؤتمر بواسطة الهاتف أو تكنولوجيات الاتصال الحديثة، لكن السلطة تتكتم على هذا الموضوع، تكتمها على هذه العملية السياسية ككل، لأنها تريد الظهور أمام الرأي العام بمظهر أنها «لا تفاوض الإرهاب» وأن «المنظمة الإرهابية قد استسلمت استسلاماً بلا شروط»! وفي الأساس هي تعتبر أن الهدف من العملية السياسية الجارية هو «تركيا خالية من الإرهاب» وليس حل المسألة الكردية.
بالمقابل لا يتضمن البيان الذي أعلن فيه الحزب حل نفسه أي إشارة إلى مقايضة مع الدولة التركية، لكنه يربط بين مطالبه السياسية وتحول استراتيجيته من الكفاح المسلح إلى النضال السياسي والحقوقي، كنقلة في المسار التحرري الكردي.
على كلا جانبي هذه العملية السياسية، التركي والكردي، ثمة مؤيدون متحمسون ومعترضون متشائمون. ولكن يمكن الحديث عن مناخ عام من التفاؤل مدفوع بالرغبة في إنهاء إراقة الدماء وطي صفحة صراع مديد قتل فيه عشرات آلاف الأشخاص من الجانبين، ومثلهم ممن أفنيت أعمارهم في السجون، وتكلفة اقتصادية تقدر بمليارات الدولارات، وتسميماً متصلاً للحياة السياسية استثمره أصحاب المصالح السياسية والمافيوية، وتآكلاً مطرداً للديمقراطية بنموذجها التركي الهش أصلاً. أضف إلى كل ذلك علاقات تركيا بدول الجوار التي كان هذا الصراع سبباً أساسياً لتوترها الدائم.
على مستوى الأحزاب السياسية اعترض كل من الحزب الجيد وحزب النصر على العملية السياسية بصورة علنية، وهما حزبان قوميان هامشيان، في حين أعلن زعيم حزب المعارضة الرئيسي، حزب الشعب الجمهوري، أوزغور أوزال تأييده للعملية على رغم أنه يخوض صراعاً سياسياً حامياً مع السلطة على خلفية اعتقال رئيس بلدية إسطنبول ومرشح الحزب للانتخابات الرئاسية القادمة أكرم إمام أوغلو. ولكن ثمة «تيارا وطنيا» داخل الحزب يعارض العملية من خلال أقلام تعبر عنه، يقوم اعتراضه على توجس من تقديم الدولة المحتمل لتنازلات كبيرة مقابل حل حزب العمال الكردستاني. تمتلئ أعمدة كتاب الصحف بتسريبات وتكهنات وتحليلات تدور حول احتمال إطلاق سراح عبد الله أوجلان (ويقال إنه شخصياً لا يريد ذلك، ربما خشيةً على حياته من أعمال ثأرية من متشددين قوميين) أو الموافقة على قيام كيان فيدرالي كردي في سوريا (فهذا «مشروع أمريكي ـ إسرائيلي سيتم فرضه على تركيا» وفقاً لبعض المعترضين على العملية السياسية) أو حتى إقامة نظام لامركزي في تركيا نفسها يشمل المناطق ذات الكثافة السكانية الكردية. أما التكهنات الأقل هوائية، ويروج لها عموماً المتفائلون، فتدور حول تغييرات سياسية ـ حقوقية متدرجة محتملة بشأن تحديد مصائر أعضاء حزب العمال الكردستاني ومقاتليه بعد حله، وإطلاق سراح المرضى والمسنين من بين المسجونين من أعضائه أو أنصاره، وترتيب منافي محتملة لكادره القيادي، وإطلاق سراح كوادر حزب المساواة والديمقراطية والتوقف عن عزل رؤساء بلدياته المنتخبين وتعيين أوصياء بدلاً منهم… أما فيما خص أوجلان بالذات فقد تحدثت تقارير إعلامية عن نقل سجناء آخرين إلى سجن إيمرالي ليشكلوا فريق عمل «سكرتاريا» له لإدارة الجانب التنفيذي من تسليم سلاح الحزب وحل منظماته، وثمة تكهنات باحتمال نقله، في مرحلة لاحقة، إلى منزل في إقامة جبرية بدلاً من السجن.
وتشكو أوساط المعارضة من أن العملية الهادفة إلى حل حزب العمال الكردستاني جاءت على حساب القيم الديمقراطية، لأن حزب المساواة والديمقراطية انتقل بموجبها من صفوف المعارضة إلى التقارب مع السلطة، الأمر الذي يعزز تفرد أردوغان بالحكم وقد يفتح أمامه باب الترشح إلى الانتخابات الرئاسية القادمة.
الواقع أن أردوغان قد لا يكون بعيداً عن هذه الحسابات السياسية، بدلالة تأييده الفاتر للعملية السياسية مقابل الحماسة الكبيرة لشريكه دولت بهجلي. وعموماً نرى في اللوحة السياسية انشطاراً بين «عمليتين» إذا جاز التعبير، واحدة تتعلق بالمعركة المبكرة على رئاسة الجمهورية، والثانية بحل سياسي لصراع دموي مديد. أردوغان يسعى إلى تأمين الإطار القانوني لترشيحه مرة أخرى، وإخلاء الساحة من منافس قوي على السلطة؛ في حين يعتبر بهجلي نفسه، ويعتبره الرأي العام، ناطقاً باسم الدولة التركية، فيسعى إلى حماية تركيا من المخاطر الاستراتيجية من خلال حل مشكلة حزب العمال الكردستاني على قاعدة «الأخوّة التركية ـ الكردية التي عمرها ألف عام» وفقاً لتعبيره.