كان… ولم يكن : مهرجان يختبر ضمير العالم”

المخرج السينمائي يحيى بركات

كاميرا العدالة في وجه كاميرا “كان”
كان مهرجان “كان” السينمائي… ولم يكن.
كان المكان الذي يحتفي بالإنسان عبر الفن، ولم يكن له قلب حين صمت عن المجازر.
كان السجّاد الأحمر مفروشًا للنجوم، بينما كانت السماء مفروشة بالقذائف على أطفال غزة.
كان الكاميرا مصوّبة نحو الوجوه الجميلة، بينما وجه الطفلة في رفح بلا ملامح.
كان… ولم يكن.
في هذا العام، لم يُختبر الفن، بل اختُبر الضمير.
من صمت ومن تكلم، عرفناهم.
من احتمى بالرماد ومن واجه النار، رأيناهم.
من خاف أن يُمنع فيلمه، ومن خاف أن يُمنع قلبه من الخفقان لأجل الإنسانية.
اللقطة التي أفلتت من المهرجان، لم تكن مشهداً من فيلمٍ صادم، بل كانت مشاهد حقيقية تُبثّ كل ساعة من شاشات غزة.
لكن مهرجان “كان” أغلق عينيه.
ارتدى بذلته الرسمية، مشى بجانب الموت، صافح أصابع الجريمة، ثم التفت إلى الكاميرا وقال: “كل شيء بخير”.
لكن لم يكن كل شيء بخير.
في مكانٍ آخر، على حافة العالم، وقف عشرات السينمائيين والكتّاب والمبدعين، ووقعوا بيانًا لا تمنحه لجنة تحكيم جائزة، بل يمنحه التاريخ اسماً.
منهم من وقّع دون أن يرفّ له جفن، مثل آني إرنو، الروائية الحائزة على نوبل، وإليا سليمان الذي جعل من فلسطين كوميديا سوداء للعالم،
وكوستا غافراس، الضمير اليوناني الذي لم يخن السينما ولا الذاكرة،
وراولا جلولي، وفيليب فوكون، وكريستيان فون كوغيليو، ومارك أرنو، وكزافييه لوغران، وتيسا لويزي ساباتيني، وديفيد دوران…
أسماء كتبت بياناً في وجه العار، واختارت أن لا تمشي على سجادٍ مغمّس بالدم.
وآخرون، وقعوا ثم انسحبوا، مثل كليمون كوجيتور،
ليس جبنًا، بل لأنه خاف على فيلمه من الخنق، خاف أن لا يُعرض،
وهذا الخوف بحد ذاته، هو اتهام جديد للمهرجان، لا لصاحب التوقيع.
شهادة ضد الفاشية،
ضد قصف البيوت، ضد إبادة العائلات، ضد الأكاذيب الملوّنة بلون الترف،
سجّلتها أقلامهم.
لا على الشاشة، بل في قلب الضمير العالمي.
حين تصرخ غزة بصوت سينمائي،
لا تحتاج نصًا.
لا تحتاج مونتاجًا.
لا تحتاج نجمًا يمشي على السجادة.
هي نفسها المشهد، والسيناريو، والنهاية المفتوحة التي نخافها جميعاً.
مهرجان “كان” السينمائي،
لم يكن فقط بين المجد والعار.
بل صار جزءًا من سؤالٍ أكبر:
هل ما زال الفن حُرًّا؟
هل ما زال المهرجان، مهرجانًا؟
أم أصبح شركة علاقات عامة تجمّل وجه الإمبراطورية، وتخشى صورة طفلٍ ينظر في الكاميرا دون أن يرمش؟
لا. هذا المشهد لم يُغلق بعد.
في عالمٍ ينهار فيه الخطّ الفاصل بين الحقيقة والتمثيل،
نحتاج إلى من يمسك الكاميرا كأنها سلاح مقاومة.
نحتاج إلى من يكتب، لا ليحصل على تصفيق، بل ليمنع نكبة جديدة.
نحتاج إلى مهرجانات تقف مع الإنسان، لا فوقه.
وهكذا، حين يعود المهرجان إلى الصالة الكبرى…
ستكون العدالة هي الفيلم الذي ينتظره الجميع،
حتى لو لم يُعرض.
“التاريخ ليس لجنة تحكيم، لكنه لا ينسى.
ومن وقف مع غزة، وقف مع وجه العالم الحقيقي…
ولو مرّت الكاميرا من فوقه دون أن تراه.”
بقلم: المخرج السينمائي
يحيى بركات
من يفضّل أن تكون الكاميرا شاهدًا
لا شيطانًا أخرس.

مقالات ذات صلة