الطبقة العاملة في العالم العربي..!

علاء الدين أبو زينة

حرير- مثل كل شيء، وفي علاقة مع كل شيء، ليست أحوال الطبقة العاملة في الوطن العربي في أحسن حال. وإذا كانت هذه الطبقة هي الركيزة الأساسية لكل مشروع تنموي واستقرار اجتماعي، فإن حالتها تتحدث عن الاختلالات البنيوية العميقة التي تعيق تحقيق التنمية المستدامة والعدالة الاجتماعية.

تتعدى مشكلات الطبقة العاملة معظم الدول العربية ضعف الأجور أو تدني ظروف العمل لتتصل بمحددات هيكلية تتعلق بالنموذج الاقتصادي الريعي، والهشاشة المؤسسية، والافتقار إلى سياسات تشغيلية قائمة على الاستثمار الإنتاجي طويل الأمد. وقد أدى التحول نحو اقتصاد السوق غير المنضبط منذ تسعينيات القرن الماضي إلى اتساع الفجوة بين رأس المال والعمل بطريقة أضعفت مفاوضة العمال الجماعية، وأجهضت فرص بناء حركة نقابية مستقلة ومجدية.

بحسب بعض التقديرات، تتحدث المؤشرات الإحصائية عن ارتفاع معدلات البطالة في المنطقة العربية لتتجاوز 11 في المائة كمعدل عام، مع تفاوتات أساسية بين الدول. وتستهدف هذه الأزمة فئة الشباب بشكل خاص، حيث تصل البطالة بينهم في بعض البلدان إلى أكثر من 30 في المائة. وفي الأردن، تضع دائرة الإحصاءات العامة معدل البطالة للعام 2024 عند 21.4 في المائة، والبطالة بين الشباب أعلى من ذلك.

وفي قطاع العمالة غير المنظمة، التي تشكل في بعض الدول العربية أكثر من 60 في المائة من إجمالي القوى العاملة، يعاني العاملون من هذه الفئة من انعدام الأمان الوظيفي وغياب التغطية الصحية والاجتماعية، ويظلون عرضة للتقلبات الاقتصادية والسياسية. وتكشف هذه الأرقام عن عجز السياسات الحكومية عن إدماج هذه الفئات ضمن منظومات الحماية الرسمية، لتتفاقم بذلك هشاشة البنية الاقتصادية والاجتماعية على حد سواء.

تتضاعف هذه التحديات في الحالة الفلسطينية بسبب سياسات الكيان الصهيوني التي تعطل أي إمكانيات لتنمية اقتصادية فلسطينية مستقلة. وتعمل القيود المفروضة على حركة العمال والبضائع، وسياسة الإغلاق والحصار على حرمان الفلسطينيين من حقهم في العمل، وتُستخدم كأداة سياسية لإبقاء الاقتصاد الفلسطيني في حالة من التبعية الدائمة. وتشير تقارير منظمة العمل الدولية إلى أن العمال الفلسطينيين الذين يعملون داخل «الخط الأخضر» أو في المستوطنات يفتقرون إلى أبسط حقوق العمل، ويتعرضون للاستغلال في ظل غياب أي أطر للحماية القانونية الفاعلة.

وفي قطاع غزة، أدى الحصار الذي فرضه الكيان ومصر على القطاع منذ العام 2007 إلى تدمير شبه كامل للقطاعات الإنتاجية، بما في ذلك الزراعة والصناعة والصيد البحري. ودفع الضيق القوى العاملة إلى أشكال مؤقتة وغير رسمية من العمل، تفتقر إلى أدنى معايير الكرامة الإنسانية. وبلغت البطالة في القطاع مستويات كارثية تجاوزت 45 في المائة في عموم السكان، وتخطت 70 في المائة بين فئة الشباب قبل الحرب الأخيرة. وطال الفقر الشديد أكثر من نصف السكان، حيث يعيش ما يزيد على 80 في المائة من الأسر على المساعدات الإنسانية.

وجاءت حرب الإبادة الجماعية الأخيرة لتجهز على أي سبل متبقية للحياة، فدمّرت آلاف المنشآت الاقتصادية والبنى التحتية، وتوقّفت عجلة الإنتاج والخدمات بالكامل تقريبًا ليفقد مئات آلاف العمال مصادر رزقهم، خصوصًا في قطاعات البناء والصناعة والزراعة التي كانت من الركائز الأساسية للتشغيل في القطاع. وفاقمت الحرب نسب البطالة المرتفعة أصلًا قبل العدوان لتقترب من 80 في المائة بشكل عام وفق بعض التقديرات. وتضررت بطريقة يتعذر إصلاحها القدرة على الوصول إلى فرص العمل أو الدعم الاقتصادي، مع الانعدام التام للأمن المعيشي والصحي والغذائي لمعظم سكان القطاع الذين يواجهون الآن مجاعة جماعية.

على المستوى الإقليمي، يعاني العالم العربي من ضعف التنسيق بين السياسات العمالية والاقتصادية، وغياب الإرادة السياسية الحقيقية لتبني نماذج اقتصادية أكثر شمولية وعدالة. وبدلًا من معالجة الخلل البنيوي في توزيع الثروة، تتجه بعض الأنظمة إلى تطبيع سياسات التقشف التي تزيد من معاناة الفقراء بضغط من المؤسسات المالية الدولية وبسبب سوء إدارة الاقتصاد المحلي.

في هذا الواقع المأزوم، ثمة حاجة إلى إعادة صياغة العلاقة بين التنمية والعمل والعدالة الاجتماعية. لا يمكن بناء اقتصاد عربي قوي من دون الاعتماد على قاعدة عمالية متمتعة بالحقوق والحريات، وقادرة على الإبداع والمساهمة في الإنتاج الوطني.. ولا يمكن تصور تحرر فلسطيني حقيقي من دون ضمان العدالة الاجتماعية للعمال بوصفهم جزءاً لا يتجزأ من معركة التحرر الوطني. ومن المؤكد أن الطبقة العاملة العربية مرتبطة عضويًا بقضية الحرية بشكل عام والفلسطينية بشكل خاص. وسوف يضيف تحررها بقوة إلى قضية الحرية الفلسطينية.

نظريًا، ينبغي أن تساعد أي أشكال معقولة من التكامل الاقتصادي العربي في الارتقاء بأوضاع الطبقة العاملة في الدول الفقيرة. ولكن، في غياب الإرادة السياسية لتحقيق مثل هذا التكامل، ينبغي على المستوى القُطري تبني استراتيجيات تنهض بواقع العمال، كشرط أساسي للاستقرار المحلي.

تحتاج السياسات الاقتصادية العربية إلى تنويع مصادر الدخل، وتشجيع التصنيع المحلي، وتقليل الاعتماد على النماذج الريعية والاستهلاكية التي تزيد من هشاشة الاقتصادات الوطنية. وثمة حاجة إلى تحديث التشريعات العمالية بما يضمن حماية الحقوق الأساسية للعمال، ويكفل حرية التنظيم النقابي، ويؤمن بيئة عمل آمنة وعادلة بلا تمييز أو استغلال. ويجب توسيع أنظمة الحماية الاجتماعية لتشمل جميع فئات العمال، بمن فيهم العاملون في الاقتصاد غير الرسمي، مع ضمان شمولية التغطية الصحية والتقاعدية. ويجب دعم نشوء نقابات مستقلة وقوية تتمتع بحرية العمل وتكون قادرة على الدفاع عن حقوق العمال بعيداً عن هيمنة الأنظمة السياسية أو الإدارية.

لا يمكن أن تتحقق التنمية في غياب الحريات والعدالة الاجتماعية. ولن تتحقق هذه الغايات عندما يكون الاقتصاد مرهونًا للتبعيات السياسية للخارج المهيمن. ومن طبيعة المهيمن تشجيع قمع الحريات، وإجهاض التقدم، أو الإبقاء على النماذج الاقتصادية الريعية والاستهلاكية وتيسير سبل الاستغلا. ولذلك لا يمكن فصل أحوال الطبقة العاملة عن الوضع الجيوسياسي المضطرب في هذه المنطقة.

مقالات ذات صلة