
القائمة المشتركة بين الحلم والاختبار
جواد بولس
حرير- منذ اللحظة الأولى التي تشكّلت فيها “القائمة العربية المشتركة” في إسرائيل، بدا وكأنّ العرب في الداخل عثروا أخيرا على صيغةٍ جامعة تعيد إليهم ما بدّدته عقود من الانقسام والتناحر الحزبي. فالمشهد الذي جمع تحت سقف واحد قوى قومية ووطنية وإسلامية وشيوعية، بدا استثنائيا في التاريخ السياسي للفلسطينيين في الداخل، وأعطى انطباعا بأنّ الممكن قد حدث، وأنّ “الوحدة” لم تعد شعارا أجوف يُرفع في المهرجانات، بل واقعا تُترجم نتائجه في صناديق الاقتراع. غير أن ما بدا يوما نصرا للوحدة، صار لاحقا اختبارا قاسيا لجدواها، وللقدرة على صيانة الفكرة حين تتنازعها الأهواء والمصالح والاختلافات الأيديولوجية العميقة.
لقد تشكّلت المشتركة عام 2015 بدافع الضرورة لا الرغبة، بعد رفع نسبة الحسم في الكنيست، بقرار إسرائيلي، هدف في ظاهره إلى تقليص عدد الأحزاب الصغيرة، وفي باطنه إلى تقليص التمثيل العربي، أو على الأقل تشتيته. لكنّ تلك الخطوة الإسرائيلية الماكرة انقلبت على مخطّطيها، وفرضت على قيادات الأحزاب العربية التفتيش عن صيغة عمل سياسي تطيل أعمار أحزابهم وتتيح للمواطنين العرب مظلة واحدة تعطي لأصواتهم وزنا مضاعفا، وقادرا على التأثير الفعلي، لا الهامشي، في المشهد الإسرائيلي العام. في تلك السنوات، اكتسبت المشتركة زخما غير مسبوق، وصارت رمزا لوحدة فلسطينية صغيرة ومهمة؛ وفي الوقت ذاته وضعت الشركاء أمام امتحان يومي وتحديات تتحرش بقدراتهم على التعايش الممكن بين تيارات لم تتقاطع إلا نادرا في الفكر، أو في البرامج الحزبية.
نجحت المشتركة، في بداياتها، أن تفرض نفسها لاعبا سياسيا لا يمكن تجاهله، خصوصا بعد أن أصبحت ثالث أكبر كتلة برلمانية في الكنيست، لكن النجاح العددي لم يؤمّن لها بالضرورة نجاحا سياسيا؛ وبعد فترة من الوفاق المضطرب بين مركباتها، ومع شروع مخططي الإجماع الصهيوني في زرع الأسافين بين الفرقاء من جهة، وامتثال أحزاب المشتركة إلى أجندات حزبية ضيقة، أو انصياع بعضهم لولاءات أجنبية، أصبح تفكك المشتركة احتمالا وشيكا وواقعيا؛ وهو ما حصل فعلا.
هكذا بدأ التناقض البنيوي في المشروع يظهر؛ إذ كيف يمكن لقائمةٍ تُعرّف نفسها بأنها الممثل الشرعي لفلسطينيي الداخل، أن تعمل في مؤسسة ترى هؤلاء المواطنين “طابورا خامسا”، أو “عبئا ديموغرافيا”؟ وكيف يمكن للمشتركة أن توفّق بين طابعها الوطني الفلسطيني، ومقتضيات العمل البرلماني الإسرائيلي الذي يستبطن، في جوهره، اعترافا ضمنيا بشرعية الدولة اليهودية ومؤسساتها وقوانينها؟ طغت هذه التناقضات واختلاف المواقف والمفاهيم الحزبية حول جملة من القضايا السياسية والاجتماعية والمدنية الأساسية، على ضرورات الوحدة، وأفضت عبر العقد الماضي إلى سلسلة من التداعيات البارزة وفي طليعتها، بعد التنازل عن فكرة الوحدة ضمن قائمة مشتركة، فشل حزب التجمع بتخطي نسبة الحسم، وارتفعت نبرة الحركة الإسلامية الجنوبية، التي نجحت في الانتخابات لوحدها، كما سمعنا قياديّيها في السنوات الأخيرة.
لقد كشف تفكك القائمة المشتركة هشاشة الوحدة التي لم تتأسس على رؤيةٍ استراتيجيةٍ موحّدة، ولا حتى على برامج عمل جامعة وتحت شعارات موحدة وضابطة. وعادت الجماهير التي صفقت للوحدة بالأمس، إلى حيرتها ويأسها، وحتى إلى عزوفها عن السياسة وإفرازاتها؛ وهي حالة لا يمكن الاستسلام أمامها، لاسيما وأن الأكثرية اليهودية المطلقة في الكنيست سوف تستمر بمشروعها الإقصائي ضد وجود المواطنين الفلسطينيين في إسرائيل، ومن أجل إقصاء الأحزاب العربية ومنعها من الاشتراك في الانتخابات. في هذه الظروف يجب عدم التوقف عند تفنيد ما حصل والتنقيب عمن كان السبب في تفكيكك المشتركة، فالتعاطي مع هذه القضايا سيجهض احتمالات بناء قائمة مشتركة جديدة، وهي كما تشير معظم استطلاعات الرأي، رغبة الجماهير ومحفزها للاشتراك في الانتخابات. فهل ما زالت “القائمة المشتركة” ضرورة؛ أم أنّها باتت عبئا يقيّد إمكانيات التجديد في العمل السياسي العربي في الداخل؟ الجواب على هذا التساؤل ليس بسيطا. فمن جهة، أثبتت التجربة أن الوحدة تمنح قوة رمزية وسياسية لا يمكن إنكارها؛ وداخليا تشكل وحدة الأقلية القومية في دولة عنصرية مظلة لهوية جامعة، وتساعد على تنقية الفضاءات العامة وتحصينها في وجه من يسعون إلى تسميمها وإشاعة مشاعر اليأس والفردانية والخوف. ومن جهة أخرى، أثبتت التجربة أن الوحدة الشكلية من دون توافقٍ جوهري، تُنتج عجزا مضاعفا، ولا تمنع أحد الفرقاء، مثلا، من القفز من حضن المشتركة إلى حضن حكومة يمينية عنصرية فاشية. لقد وُلدت المشتركة عام 2015 من رحم الخوف من الإقصاء، لا من رحم مشروعٍ سياسيٍ واضحٍ ومكتمل الملامح. ولذا، حين زال الخطر المؤقت، أو خفّ تأثيره، تفككت الأواصر، وبقيت الأسئلة معلّقة في الهواء. هكذا تصرفت وتتصرف، للأسف، بعض الحركات والأحزاب، التي تشعر بأنها قادرة على عبور نسبة الحسم، من دون جسر عودة المشتركة.
برأيي أن الفرقاء، على الأقل الجبهة الديمقراطية والعربية للتغيير والتجمع، قد ينجحون بالتوافق على صيغة تمكنهم من إعادة إنتاج المشتركة بصيغتها القديمة، لكنهم سيخطئون، إذا قاموا بذلك من دون استعادة معالجة الفكرة الأهم التي أهملوها وسقطوا: فكرة العمل السياسي الموحّد، الذي يجب أن يضع رؤية واضحة لعلاقة المواطنين العرب بالدولة، ولحدود تفاعلهم داخل مؤسساتها، ولتصور قياداتهم لدوريها: الوطني والمواطني. فليس المطلوب قائمة عارضة تدوس عليها الأحزاب لتعبر عتبة الحسم، بل نحن بحاجة إلى مشروع يضع سلامة المواطن وأمنه ومصالحه وحقوقه في مركز الاهتمام. لقد كانت تجربة المشتركة، بكل ما فيها من نجاحاتٍ وإخفاقات، مرآة كاشفة لحالنا الهشة، وكشفت كيف يمكن للضغوط الخارجية أن تخلق، عند البعض، حاجة انتهازية عابرة للوحدة النفعية المؤقتة، وكيف يمكن للأنانيات الصغيرة أن تفرّقهم سريعا، فهل نحن بحاجة إلى قائمة مشتركة؟
لا يمكن، إذا أردنا أن نكون جدّيين، الإجابة على هذا السؤال بنعم أم لا ؛ وإن كنا نعترف بحاجتنا إلى إطار سياسي وحدوي ليعطينا القوة والمناعة، فعلى الفرقاء والوسطاء والمجسّرين، أن يتعاطوا مع مخاوف الناس وشكوكهم وكراماتهم. ففي النهاية، لا تمنح القوائم الحزبية المعنى للعمل السياسي من فراغ، بل هي الفكرة التي تحملها تلك الأحزاب وبرامج عملها المعروضة أمام المواطنين. لقد كانت المشتركة قبل أن تكون تحالفا، فكرة من أجل القوة لأننا معا ننجح ونكون أقوياء.
يعتقد البعض أن ما أصاب القائمة المشتركة هو ما يصيب كل فكرة كبيرة ومهمة، حين تصطدم بالواقع العبثي، فتفككت على أسوار الكنيست وواقعها العبثي، لكنها تركت وراءها درسا بليغا: أن الوحدة، خاصة في حالتنا، نحن المواطنين الفلسطينيين في إسرائيل، ليست ترفا، بل ضرورة وجودية لابناء شعب يعيشون على تخوم التهميش والإنكار. فهل صارت هذه الضرورة، عند البعض سؤالا أم مناورة؟



