
تحالف الإنسانية وثبات الموقف… من القاهرة إلى غزة
الإذاعي شريف عبد الوهاب - رئيس الشعبة العامة للإذاعيين العرب
لم تكن زيارة العاهل الأردني الملك عبد الله الثاني إلى مصر، ولقاؤه مع الرئيس عبد الفتاح السيسي والرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون، مجرد لقاء عابر على هامش الأحداث. بل كانت قمة ثلاثية حملت بين طيّاتها أكثر من رسالة، وأكثر من إشارة. قمة تُقرأ على أنها نداء حازم في وجه العالم، وصوت مرفوع في وجه الظلم، وموقف ثابت لا يتزعزع في مواجهة محاولات فرض واقع قسري على الفلسطينيين.
رسائل القمة الثلاثية
من القاهرة، التي كانت ولا تزال قلب العروبة النابض، إلى عمّان، العاصمة التي لم تغب يومًا عن القضية الفلسطينية، جاء اللقاء الثلاثي ليعلن للعالم أن هناك خطًا أحمر لا يمكن تجاوزه، وهو التهجير القسري للفلسطينيين من أرضهم، لا من غزة، ولا من الضفة، ولا من أي بقعة على أرض فلسطين. فالقضية ليست فقط في وقف الحرب، بل في رفض المساس بالحقوق التاريخية للشعب الفلسطيني.
الرئيس السيسي كان حازمًا في تصريحاته، مؤكدًا أن مصر لن تسمح بأي حلول تنتقص من حق الفلسطينيين أو تسعى لفرض واقع جديد على حسابهم. والملك عبد الله الثاني، الذي يحمل في وجدانه همّ فلسطين منذ نشأته، كان واضحًا في رفضه القاطع لأي محاولة لتغيير الواقع الديموغرافي في غزة. أما الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون، فكان حضوره مؤشرًا على اهتمام أوروبي بدأ يتحرك تجاه عدالة القضية، ولو بخطى بطيئة.
غزة… الجرح النازف في ضمير العالم
ما يحدث في غزة ليس مجرد عملية عسكرية، بل هو كارثة إنسانية مكتملة الأركان. شعب محاصر، يتعرض للقصف المتواصل، يموت أطفاله تحت الأنقاض، وتُهدم بيوته فوق رؤوس سكانها. شعبٌ يقاوم، لا بالسلاح فقط، بل بالصمود، بالإصرار على البقاء، برفض الخضوع والخنوع. كيف يمكن للعالم أن يغضّ الطرف عن هذه المأساة؟ كيف يمكن للضمير الإنساني أن يصمت أمام هذا المشهد المتكرر كل يوم؟
لقد تجاوزت الحرب في غزة حدود السياسة والمواقف الدبلوماسية، لتصبح مرآة حقيقية تُظهر حجم الانحدار الأخلاقي لدى المجتمع الدولي. أصبحت غزة تُقدَّم قربانًا على مذبح الصمت العالمي، وكأن إنسانية القرن الحادي والعشرين عاجزة عن إنقاذ طفل يصرخ تحت الركام، أو أمّ تبكي على فلذات كبدها، أو رجل فقد منزله وأحلامه ومستقبله في لحظة واحدة.
التحالف العربي الإنساني… نواة لحراك أوسع
إن ما يجمع مصر والأردن وفلسطين، ليس فقط الموقع الجغرافي، بل المصير المشترك. وتحالف القاهرة وعمّان في هذه اللحظة الحرجة يبعث برسالة قوية مفادها أن هناك دولًا ما زالت تؤمن بالقضية، وتدافع عنها دون حسابات ضيقة. بل أكثر من ذلك، فإن هذه القمة الثلاثية قد تكون اللبنة الأولى لتحالف عربي أوسع، يعيد ترتيب الأوراق، ويضع القضية الفلسطينية في موقعها الصحيح كقضية تحرر وكرامة، لا كملف أمني أو إنساني يُدار من خلف الكواليس.
هذا التحالف يفتح الباب أمام دول أخرى لأن تعلن موقفها بوضوح. فاليوم، لم يعد الصمت خيارًا، ولم تعد الدبلوماسية الرمادية مقبولة. إما أن تكون مع الحق، أو أن تُحسب ضمن شهود الزور على أكبر مأساة إنسانية في هذا العصر.
الإنسانية تختبر نفسها… وتفشل
كل يوم، تُختبر الإنسانية في غزة… وكل يوم، تفشل. لا لقصور في الضمير، بل لتواطؤ في المواقف، وتخاذل في الفعل. الأسى لا يكفي، ولا تعني شيئًا بيانات الشجب التي تصدر بعد أن يُدفن الشهداء. العالم يكتفي بإحصاء عدد الضحايا، لكنه لا يملك الجرأة لوقف آلة القتل.
فهل صارت الإنسانية رفاهية؟ هل صار الدفاع عن المظلومين ترفًا دبلوماسيًا؟ نحن أمام مشهد لا يحتمل التجميل. طفل يُخرج من تحت الأنقاض وعيناه مفتوحتان، كأنهما تسألانا: أين كنتم؟ أمّ تفقد أبناءها وتقول: حسبي الله… ومجتمع دولي يكتفي بالتصريحات الصحفية، وينام في أمان.
من عمق الألم… يخرج موقف
ورغم هذا السواد، هناك أمل. هناك من يرفع الصوت، من لا يخشى المواجهة، من يقول: لا. لا للتهجير، لا للخذلان، لا لمقايضة الدم الفلسطيني بأي صفقة. الموقف المصري والأردني، كما ظهر في القمة الثلاثية، هو بمثابة إعلان واضح أن هناك خطوطًا لا تُمس، وأن الشعب الفلسطيني ليس وحيدًا.
لقد كانت كلمات الرئيس السيسي والملك عبد الله في منتهى الحسم، لا مجرد مجاملات دبلوماسية. كانت دعوة للتحرك، وللضغط، ولإعادة الاعتبار لقضية طالت معاناتها.
في الختام… غزة ليست وحدها
من القاهرة إلى عمّان، ومن غزة إلى كل قلب نابض بالحق… الرسالة باتت واضحة: فلسطين ليست وحدها. غزة لن تُكسر، ولن تُرحّل. والذاكرة لا تُمحى مهما اشتدت النيران. لقد فشلت آلة الحرب في أن تنتزع حب الفلسطيني لأرضه، وها هي تفشل أيضًا في أن تنتزع منّا إحساسنا الإنساني تجاهه.
غزة لا تطلب المستحيل. كل ما تريده هو العيش بكرامة، أن تُترك لتبني مستقبلها، دون قصف، دون تهجير، دون حصار. فهل هذا كثير