ضربات إسرائيلية استباقية تزعزع استقرار سورية

مالك ونوس

حرير- شنّ جيش الاحتلال الإسرائيلي ليل الأربعاء (2 إبريل/ نيسان 2025) عشرات الغارات الجوّية على عدّة مواقع عسكرية سورية بينها قاعدة التياس (أو ما يعرف بمطار تيفور شرقي تدمر)، التي تخطّط تركيا لاتخاذها قاعدةً جوّيةً لها. وكان لافتاً ما قالته الإذاعة الإسرائيلية مباشرةً بعد الهجوم من أن هذه الغارات تعدّ بمثابة رسالة للرئيس التركي، أي أنها محاولة لمنع تركيا من إقامة قواعدَ في سورية، ما يشير إلى أن العدوّ سيمنع أيّ محاولة تثنيه عن الاستمرار في ضرب سورية وإضعافها إلى أقصى درجة ممكنة. وليست هذه الرسالة هي الأولى، فقد شنّ جيش الاحتلال ضربات مماثلة على هذه القاعدة قبل أسبوع، وأعقبها تصريح لمصدر عسكري إسرائيلي قال إنها رسالة إلى تركيا. وإذا كانت هذه الضربات تهدف إلى إضعاف سورية، فإن لها أهدافاً أخرى، أخطرها منع استقرار هذه البلاد، وهو ما يمكن أن يمنع استقرار الدول المحيطة بسورية، ومنها تركيا، التي لا تخفي إسرائيل خشيتها من استمرار صعودها قطباً إقليمياً قوياً.

وباتت التفاصيل بشأن إقامة قواعد عسكرية تركية في سورية تتكشّف شيئاً فشيئاً، جديدها أخيراً ما نقله موقع ميدل إيست آي الإخباري قبل أيّام من تصريحات “مصادر مطلعة”، أفادت بتحضيرات للشروع في هذا الأمر. ثمّ ما لبثت أن انتشرت أنباء عن وصول فعلي لقوات تركية ومهندسين وفنّيين أتراك إلى قاعدة التيفور. ويأتي هذا مع اتضاح الرؤى المتعلّقة بوجود تغيير سيحدّد مستقبل المنطقة، ويعيد رسم الخرائط السياسية، وربّما الجغرافية، في سياق واقع جديد سيفرض على المنطقة، من دون أن يكون لشعوبها دورٌ في هذا الواقع. غير أن حساسية هذا الأمر بالنسبة للاعبين الإقليميين، وخصوصاً دولة الاحتلال الإسرائيلي، يجعل تحقيق الاستقرار، الذي كان أحد الأهداف من إقامة هذه القواعد، مستبعداً مع الضربات الاستباقية التي شنّها الإسرائيليون ليل الأربعاء على المطار المقصود، والمتزامن مع توغّل إسرائيلي جديد في محافظة درعا.

وليس الكلام عن إقامة قواعد عسكرية تركية في سورية جديداً، بل ظهر مع الأيّام الأولى التي تلت إطاحة نظام بشّار الأسد، ثمّ كثر الحديث عن الموضوع مع زيارة الرئيس السوري للفترة الانتقالية، أحمد الشرع، أنقرة (4 فبراير/ شباط 2025)، وقيل إنها ستخصّص لمناقشة الوضع الأمني، وتدريب تركيا القوات السورية، وكذلك مناقشة العوامل التي تساهم في استقرار سورية وتعافيها اقتصادياً، تمهيداً لعودة أبنائها من مخيّمات اللجوء في الدول المجاورة. ويمكن لإقامة هذه القواعد أن يزيد من متانة العلاقات السورية التركية، ويدفعها باتجاهات متقدّمة مستقبلاً، ولا يُستبعَد أن تصل إلى درجة التحالف الاستراتيجي على الصعد كافّة. وهو لذلك ربّما سيكون موضع دراسة ونقاش في دوائر صنع القرار في المنطقة، علاوة على تسبّبه في زيادة اهتمام القوى الإقليمية والدولية بسورية، وبمدى تطوّر العلاقات بين دمشق وأنقرة، وضرورته لإبعاد الأخطار عن تركيا أبعد ما يمكن، إذا ما استطاعت تركيا لجم الإسرائيليين ومنعهم من الاستمرار في استباحة سورية، كما فعلوا ويفعلون طوال 41 سنة الماضية.

غير معروفٍ إلى أيّ مدى ستؤثّر هذه الضربات، وكذلك التصريحات الإسرائيلية الواضحة التي أعقبتها، في العلاقات التركية الإسرائيلية، التي تمرّ بحالة من التوتّر، خصوصاً بعد الحرب الإسرائيلية المتواصلة على غزّة، وهي العلاقات التي مرّت بمنزلقات كادت أن تؤدّي (أكثر من مرّة) إلى قطيعة بين الطرفَين. وإذا كان الإسرائيليون يجدون في هذه القواعد عاملاً يحدّ من حرّية حركتهم في الأجواء السورية، فإنهم في الوقت نفسه يبدون غير مرتاحين لظهور أنقرة لاعباً رئيساً ومقبولاً في الساحة السورية، وقادراً على منافسة القوة الإسرائيلية وتحكّمها بالمنطقة.

لكن، هل تُعدّ إقامة قواعد تركية العامل الوحيد الذي يساهم في تحقيق الاستقرار في سورية؟… مؤكّدٌ أن العامل الداخلي من أهم عوامل استقرار سورية، بغضّ النظر عن استمرار التدخّل الإسرائيلي المتواصل في شؤونها، واستمرار الضربات الجوية الإسرائيلية لقواعدها العسكرية، وحرمانها من القوة الضرورية لتحقيق الدرجة المطلوبة من الأمان، واللازمة لتشجيع المستثمرين على القدوم من الخارج للمساهمة في إعادة بناء البلاد. ويُعدّ الشروع في مسار تحقيق العدالة الانتقالية شرطاً داخلياً لتحقيق الاستقرار، خصوصاً بعدما ثبت أن تغييب هذا المسار هو الذي أسهم في ظهور الانتهاكات والمذابح بدافع الانتقام في الساحل السوري، بداية مارس الماضي. ويشكّل عدم الشروع في هذا المسار دافعاً لاستمرار حالة التوتّر الداخلية، لأن اهمال البتّ في قضية محاكمة المتّهمين بالانتهاكات خلال حكم بشّار الأسد، سيسهم في استمرار حالات الانتقام وانتشارها في نطاق واسع، وسيؤدّي إلى قتل الأبرياء، وهو ما لا يمكن توقّع التبعات التي قد يتسبّب بها.

لقد زادت الضربات الإسرائيلية للقواعد السورية من سرعة السير في الحلقة المفرغة التي دخلتها الإدارة السورية بعد إطاحة الأسد. بدايةً، أدّى عدم الشروع في مسار تحقيق العدالة الانتقالية إلى تغليب عامل الانتقام، وبالتالي حصول انتهاكات ومذابح فرملت الجهد المبذول لرفع العقوبات الدولية المفروضة على سورية. وإذا كان رفع العقوبات شرطاً من أجل البدء في تعافي البلاد الاقتصادي، فإن هذا التعافي شرط لزيادة مستوى معيشة السوريين، وبالتالي شرط لتخفيف التوتّر والاحتقان، اللذين لا يخفيا على أيّ مراقب للوضع العام في سورية، وهو ما يمكن أن يؤدّي إلى قلاقل تحدّ من استقرار البلاد.

وإذا كانت القواعد التركية تهدف إلى تحقيق الاستقرار في سورية، فإن الضربات العسكرية التي يوجّهها الإسرائيليون بهدف منع إقامتها هي عامل لمنع هذا الاستقرار. وهذا بحدّ ذاته يُعدّ دخولاً في الحلقة المفرغة من باب آخر. وإزاء هذه المعطيات، يبدو الملفّ السوري غائماً، وأيضاً دافعاً للإحباط، وربّما يتطلّب عقد مؤتمر دولي تتوافق فيه القوى الدولية والإقليمية على أجندة محدّدة تخفّف التحدّيات والتجاذبات والاستقطابات، التي سيُدفّع استمرارُها الشعبَ السوري أثماناً ليس مسؤولاً عنها.

مقالات ذات صلة