“حماس” والأسئلة الصعبة عسكرياً وسياسياً

مراد الشيشاني

حرير- ما إن مرّت ساعات على إعلان وقف إطلاق النار بين إسرائيل وحركة حماس، حتى بدأت فيديوهات مقاتلي الجناح العسكري للحركة (كتائب عزّ الدين القسّام)، تظهر بين الغزّيين المحتفلين بالإعلان، وتوالت مثل تلك الفيديوهات مع دخول الاتفاق حيّز التنفيذ، فظهر مقاتلو القسام في شوارع غزّة بسيّاراتهم البيضاء المميّزة، وبلباسهم العسكري، مع هتافات ترحيب وإشادة من بعض الغزّيين، وتجمّعات نظّمتها “عزّ الدين القسّام” لتسليم المحتجزين الإسرائيليين، مثيرة نقاشاً كبيراً في الأوساط العربية والإسرائيلية على حدّ سواء، بشأن الطرف المنتصر؟

العنوان الذي اهتم به الإعلام الإسرائيلي أن مقاتلي الحركة يتجوّلون في وسط القطاع بعد ما يقارب 14 شهراً من الحرب الدموية التي شنّتها إسرائيل ضدّ قطاع غزّة ردّاً على هجمات “حماس” في السابع من أكتوبر/ تشرين الأول (2023)، وهدف العملية المُعلَن كان تدمير الحركة. لكن بغضّ النظر عن السؤال السطحي عمّن هو المنتصر، أثارت تلك المشاهد سؤالاً أكثر جدّيةً بشأن ما إذا كانت إسرائيل قد حقّقت هدفها من الحرب على القطاع، أي “تدمير حماس”، وعمّا إذا كانت الحرب قد أثّرت في قدرات الحركة العسكرية؟

سياسياً، أضعفت إسرائيل “حماس”، وهذه حقيقة لا يبدو أن كثيرين في المنطقة العربية يرغبون بالاعتراف بها. اغتالت إسرائيل رئيس المكتب السياسي للحركة إسماعيل هنيّة في طهران، ومن قبله القيادي صالح العاروري في بيروت، ومن ثمّ زعيمها، الذي اعتبر المسؤول الأول عن هجمات السابع من أكتوبر (2023)، يحيى السنوار، ما دفع الحركة إلى تشكيل لجنة للقيادة لتفادي الخلافات. كما أن الضغوط الدولية والإقليمية ازدادت على الحركة، وأبقى ضرب إيران، وحليفها حزب الله، الحركةَ وحيدةً من دون دعم من طهران، كان عصب الحياة لتكنولوجيا الأسلحة التي طوّرتها الحركة، خاصّة سلاحها الصاروخي، وأسلحتها المرتبطة بالمسيّرات.

منذ توليه قيادة الحركة في القطاع عمد يحيى السنوار إلى إعلاء دور كتائب القسّام العسكرية على حساب الجناح السياسي، وهو ما فسّر بقاء قياداتٍ كثيرة في الظلّ، حين بدأت هجمات السابع من أكتوبر (2023)، حتى بدا أن الحزب بات عبئاً على الكتائب مجموعةً مسلّحةً، وهو ما فسّر تولي السنوار نفسه قيادة الحركة بعد مقتل هنية. بعيد الهجوم، ازدادت شعبية “حماس” في أكثر من مدينة عربية، وبات السهم الأحمر في فيديوهات كتائب القسّام الذي يشير إلى الجنود الإسرائيليين المُستهدَفين ملصقات على زجاج السيّارات وأبواب المحالّ التجارية، وبات الناطق الرسمي باسم كتائب القسام (أبو عبيدة) شخصيةً يُقلَّدها في ملبسها حتى الأطفال في مهرجاناتهم المدرسية. وفي الضفة الغربية كانت هتافات المتظاهرين تقول “حطّ السيف وشيل السيف احنا رجالك محمد ضيف”، أو “كلّ الضفة حمساوية”، وتكرّرت هذه الهتافات في أكثر من مدينة عربية.

ولكنّ الوقائع في الأرض تشير إلى صورة مختلفة، إذ أجرى كاتب هذه السطور تحليلاً (لصالح معهد نيولاينز في واشنطن)، لأكثر من 297 عملية (فيديو) نفّذتها كتائب القسّام ضدّ الجنود الإسرائيليين منذ بدء الحملة العسكرية الإسرائيلية، وحتى أكتوبر/ تشرين الأول 2024، نشرت عبر القناة الرسمية للحركة في “تليغرام”، في محاولة لتقييم قدرات كتائب القسّام العسكرية. ووجد التحليل أن العمليات البرّية شكّلت أكثر من ثلث عمليات “القسّام”، على حساب الرشقات الصاروخية نحو الداخل الإسرائيلي والسلاح المضادّ للمدرّعات والمفخّخات المحلّية الصنع، التي بدأ تراجعها منذ مايو/ أيار 2024. وبالتالي، يلاحظ أن تلك العمليات تشير إلى تزايد قدرات “القسّام” التجنيدية، بحكم اعتماد ذلك النمط من العمليات على القوة البشرية، لكنّها في المقابل تشير إلى تراجع قدراتها العسكرية، التي تعتمد على أسلحة محلّية الصنع (الصواريخ، ومضادّ المدرّعات، والمفخّخات محلّية الصنع). كانت تطويرات السنوار سرّيةً، اعتمدت على ما توصف بـ”التكنولوجيا الإيرانية”، لصعوبة تهريب السلاح إلى غزّة، وبالتالي، فإن وصفات تصنيع الصواريخ طويلة المدى، والمسيّرات، ومضادّات الدروع، وغيرها من الأسلحة الصغيرة والمتوسّطة كانت تصنّع محلّياً. وعلى ذلك، يلاحظ أن قدرات “حماس” التجنيدية تحسّنت رغم مقتل كثيرين من أفرادها واعتقالهم، لكن قدراتها التصنيعية تراجعت، بحكم الحرب، والحصار المفروض على القطاع. وتفيد تقارير بأن الحركة عمدت إلى استخدام بقايا المدافع الإسرائيلية في التصنيع المحلّي للسلاح، وهذا مؤشّر إلى افتقاد الحركة المواد الأولية التي لطالما اعتمدت عليها في التصنيع.

لكن (وكما يقول مصدر فلسطيني لكاتب السطور، فضّل عدم كشف اسمه)، إن “حماس” و”القسّام” أُضعفا بقوّة، لكنهما ما زالا الأقوى في غزّة بحكم غياب السلطة الوطنية الفلسطينية، والبديل الذي يمتلك تلك القوة. لكن أيضاً، باتت الأصوات المنتقدة لـ”حماس” في داخل غزّة أعلى أيضاً، كما يظهر في حوارات وسائل التواصل الاجتماعي، وفي تظاهرت احتجاج بدأت في بيت لاهيا، شمالا، وفي الرسائل المتبادلة مع غزّيين في داخل القطاع. لكنّ شعبية “حماس” ازدادت في الضفة الغربية (في مقابل تراجعها في غزّة، بحسب المركز الفلسطيني للبحوث السياسية والمسحية). وكذلك الحال في وجود عدة قضايا في المحاكم الأردنية، واعتقالات أردنيين كانوا ينوون تنفيذ عمليات هجومية لصالح “حماس” ضدّ إسرائيل، على غرار عملية عامر قواس وحسام أبو غزالة، اللذين حاولا استهداف جنود إسرائيليين بعد اجتياز الجسر الفاصل بين الأردن والضفة الغربية في أكتوبر/ تشرين الأول 2024.

وعلى ذلك، “حماس”، وتحديداً كتائب الشهيد عز الدين القسّام، قادرة على الانتشار في غزّة، وتجنيد آخرين، لكن الواقعين الإقليمي والمحلّي يفيدان بأنه يصعب عليها أن تحكم القطاع وحدها. وبحكم الضعف السياسي، سيتزايد الاعتماد على “القسّام” الجناح المسلّح، لكن قدرات تلك الكتائب العسكرية أُضعفت، وحتى لو زادت قدراتها التجنيدية، فإنها ستحتاج وقتاً لإعادة بناء ترسانتها العسكرية، ويعتمد هذا على قدرة إيران ورغبتها بعد الضربات التي وُجّهت إليها في أرضها، وضدّ حليفها الأقوى حزب الله.

ستدفع معادلة “ضعف سياسي ومحاولة الاستمرار عسكرياً” الحركة إلى إنتاج خطاب “الانتصار”، الذي بدأ في الانتشار في قنوات الحركة في وسائل التواصل، والقنوات المؤيّدة. وللمفارقة، لدى اليمين الإسرائيلي، الذي يبرّر رفضه اتفاق وقف إطلاق النار بأن الحرب الإسرائيلية لم تحقّق أهدافها، وهذا يعني أن قدرات “حماس” في التجنيد ستبقى عالية. ساهم غياب البديل السياسي لحركة حماس في غزّة، أو حتى الشريك الفلسطيني، لضعف السلطة الوطنية ورفض إسرائيل إشراكها في إدارة القطاع، ساهم في تقوية شوكة “حماس” في غزّة، والموقف الأميركي يجب أن يعمل على تعزيز دور شركاءَ فلسطينيين في حكم القطاع، من خلال حلّ الدولتَين، إذ تجد المبادرة المصرية، وما يُسرّب من أحاديث عن إدارة مصرية للقطاع لمواجهة طروحات الرئيس الأميركي دونالد ترامب، قبولاً إقليمياً ودولياً، لكن هذا سيدفع حركة حماس إلى إعلاء الدور العسكري لكتائب القسّام، وتحويلها معبّرةً عن الحركة مجوعةً مسلّحةً أكثر من أنها حركة سياسية أمراً واقعياً تفرضه مرحلة ما بعد غزّة.

كثيرون في غزّة (وفي الشارع العربي) يرفضون تصنيف “حماس” إرهابية، ويعتبرونها حركة مقاومة. في المقابل، هناك أصوات فلسطينية في غزّة بدأت تنتقد “حماس”، وتصف هجماتها في “7 أكتوبر” بالمغامرة، بسبب الدمار الذي تسبّبت به إسرائيل للقطاع. لكن أصواتاً فلسطينية أخرى تدعو إلى أن تدار غزّة بالتشارك، عبر تقوية الطرف الآخر، وهذا قد يضبط السلوك العسكري لـ”حماس”. تلك الأصوات لم يُستمَع إليها بحكم الصوت الأعلى لمؤيدي “حماس”، ويبدو أن هذا الوقت الأنسب لإجراء تلك المراجعات، خاصّة بالاستماع لأصوات الغزّيين الذين دفعوا الثمن الأغلى.

مقالات ذات صلة