المطلوب من لبنان إصلاحٌ أم تطبيع؟

جورج كعدي

حرير- ينطبق كلام النبي عيسى إلى إحدى النساء: “مرتا، مرتا، إنكِ تهتمّين بأمور كثيرة … إنّما المطلوب واحد” على واقع لبنان، سلطةً وشعباً وحكّاماً. فالبلد الصغير حجماً، المقلق فعلاً لكيان الاحتلال عند حدوده، منهمكٌ بأمور كثيرة ذات عناوين فضفاضة ومستحيلة (كالإصلاحات مثلاً، ولا أحد يدري تماماً ما هي!)، بينما المطلوب منه أمرٌ واحدٌ فقط لا غير: الانفتاح السريع على فكرة التطبيع مع دولة القتل والإبادة والأطماع غير المحدودة بالأرض والمياه والثروات (إسرائيل). ولهذه الفكرة مؤيّدوها، ويا للأسف، داخل البلد الممزّق طائفياً ومذهبيّاً وأهواءَ تبعيّةٍ خارجية، خصوصاً لدى بعض المغالين بشعارات “السيادة” وحبّ “لبنان أولاً”، فيما يدور في ذهنهم حبّ أميركا وربيبتها أولاً. أمّا المعارضون بشدّة لمسألة التطبيع أو حتى لمجرّد بحثها، فالمطلوب منهم الانفتاح على الفكرة، وإلّا فالثبور وعظائم الأمور. وإمعاناً في التعمية والتضليل، يتولّى الأميركيون، بالتنسيق مع دول أوروبية ضالعة في الشأن اللبناني، مثل فرنسا وإنكلترا وألمانيا، وبعض العرب، ومع البنك الدولي والنظام المصرفي والمالي العالمي، ترويج مسائل الإصلاح وخصخصة القطاعات العامّة في البلد الصغير، المُفلس، المغلوب على أمره والمحاصر اقتصادياً ومالياً وسياسياً، على أنّها الحلّ “السحري” لكلّ أزماته، فيما يُطلّ شبح التطبيع من خلف ستارة “الإصلاحات” والكلام شبه اليوميّ عنها. أمّا السلطة، ممثّلةً في شكل خاص برئيسي الجمهورية والحكومة، فإمّا أنّها تعرف حقيقة المطلوب من هذا البلد وتتواطأ بالتالي مع الساعين لتحقيقه، وإما أنها، في أحسن الظنّ، مخدوعة مثل عامة الشعب بأنّ العلّة في تطبيق الإصلاحات المطلوبة والضرورية لنهضة البلد مالياً واقتصادياً واجتماعياً وإدارياً. والاحتمال الثاني مستبعدٌ، إذ من المرجّح أنّ الذين وصلوا إلى مقاعد السلطة الأمامية ضالعون في المشروع المستقبليّ (غير البعيد؟) المعدّ للبنان لناحية تهيئته لساعة التطبيع مع العدوّ التاريخي، التي قد تأتي فجأةً وغفلةً على الطريقة “الساداتيّة” (أنور السادات). ويقع هذا لبعض اللبنانيين، من “جمهور العداء للكيان الصهيوني”، في خانة الخيال العلميّ غير الواقعي، فيما يراه لبنانيون آخرون من ذوي الهوى الأميركي – الأوروبي، وبعض العربي والخليجي، أمراً محتوم الحدوث، وقد يكون عاجلاً وليس آجلاً.

نؤوب دوماً، مع الأميركيين والغرب المتصهين وبعض العرب الذين يسيل لعابهم للسلام والتطبيع مع العدو الأخطر على الأمّة والعالم، إلى المربّع الأوّل من تاريخ الصراع: كيف يُجْعَل الكيان الصهيونيّ مقبولاً، بالحسنى أو بالقوة، من دول الجوار، المحاذين لفلسطين أو البعيدين عنها. فبالغواية والخداع، أو بالاستعداد الذاتيّ النزق والأحمق (كهبوط السادات الفجائيّ في مطار بن غوريون)، اُخرجت مصر الحبيبة من الصراع، ومثلها وبعدها الأردن العزيز، وخضعت دول خليجية لخديعة اتفاقيات أبراهام على أساس مزحة “أولاد العمومة” الخرافيّة المتهافتة. ووصلت مفاعيل الخطيئة إلى السودان الغارق في دمائه، بعد إعلان استعداداته التطبيعيّة (يا للمصادفة ويا للمفارقة)، واستمرّ وباء التطبيع منتشراً في الهواء، باحثاً عن الأجساد الضعيفة فاقدة المناعة لينقضّ عليها، وها سورية ولبنان معرّضان اليوم أكثر من أي يوم آخر لالتقاط الوباء بسبب الوهن والضعف اللذين أصابا جسديهما المنهكين بالحروب الداخلية والطائفية، وعقب الدمار الهائل اللاحق ببنيتيهما العسكرية والعمرانية والاقتصادية والاجتماعية، ما جرّدهما من القوة والحصانة اللتين تؤهلانهما لرفض الاستسلام والتطبيع وسواهما من أشكال الخضوع واللحاق بالركب العام في المنطقة.

في الهجمة الأميركية المتجدّدة على لبنان كثير من الهيمنة والفوقيّة والتهديد والتهويل والخبث والعدوانيّة وانتهاك السيادة والتدخّل في الشؤون الكبيرة والصغيرة، كأنّنا في عودة إلى زمن الاستبداد العثماني، أو في أفضل الحالات إلى زمن المندوب السامي الفرنسيّ. وفيما يظنّ المنحنون لرياح هذه الهجمة أن الولايات المتحدة تريد بالبلد خيراً ولا تنام إدارتها الترامبية الليالي من همّها بشأنه، يوقن العارفون بالنيات الأميركية الحقيقية أنّ الولايات المتحدة لا تريد سوى مصلحة ربيبتها الحبيبة “إسرائيل” ولا يؤرّقها همٌّ إلّا الهمُّ الإسرائيليّ، وبذلك تكون هجمتها المستجدّة مصلحةً إسرائيلية، أوّلاً وأخيراً، وما الضغوط السياسية والاقتصادية والأمنية التي تمارسها على لبنان إلّا مقدمة لطلب الاستسلام والقبول بمبدأ التطبيع مع الكيان وإنهاء الصراع وجعل الحدود مع فلسطين آمنة للصهيونيّ المستعمر والمحتلّ!

 

أمّا وقد عُرف الهدف وبطل العجب، فإنّ الأسئلة المطروحة: هل يستطيع لبنان تأمين إجماع وطنيّ حول التطبيع؟ وهل يطبّع قبل الآخرين (السعودية، سورية …) أم بعدهم أم بالتزامن معهم؟ هل للتطبيع إذا حصل، وهذا الأهمّ، فرص تطبيق شعبيّ ونجاح؟ إلى أسئلة كثيرة يفرضها موضوع خطير كهذا، لو حصل، والأرجح أن حصوله ليس مضموناً ولا قريباً في أيّ حال.

مُشْعِلُ قضية التطبيع بين لبنان والكيان قبل بضعة أسابيع تصريح سياسي إسرائيلي عن رغبة الكيان الصهيوني في التوصل إلى تطبيع مع لبنان، معتبراً أنّه “أمر ممكن”، وأن سياسة نتنياهو “غيّرت الشرق الأوسط وستستمرّ بالزخم نفسه للتوصل إلى تطبيع مع لبنان”، مضيفاً: “نحن والأميركيون نعتقد أن ذلك ممكن بعد التغييرات التي حصلت في لبنان”. وفي سياق متصل، أعرب الكولونيل في الاحتياط موشيه إلعاد، عن اعتقاده بأنّ الرئيس اللبناني جوزاف عون “يريد أن تكون هناك فترة جديدة من العلاقات بين لبنان وإسرائيل” (حرصت دوائر الرئاسة اللبنانية على نفيه)، واستند هذا العسكري الصهيوني إلى الاتفاق الذي بين لبنان و”إسرائيل” برعاية لجنة المراقبة الدولية التي تقودها الولايات المتحدة وفرنسا، ويقضي بتشكيل ثلاث مجموعات عمل مشتركة تناقش انسحاب جيش الاحتلال الإسرائيلي من النقاط الخمس، وإطلاق سراح الأسرى اللبنانيين لدى الاحتلال، والنقاط المتنازع عليها في ترسيم الحدود، ويضاف إلى ذلك كلام نائبة المبعوث الأميركي للشرق الأوسط، مورغان أورتيغوس، حول ما أسمته “إطلاق المسار الدبلوماسي”، وكلام السفيرة الأميركية في لبنان، ليزا جونسون، علناً عن مسألة التطبيع استناداً إلى اقتناع واشنطن بأن حزب الله “في وضع صعب جداً ولم يعد يملك قدرة التعطيل أو الترهيب”، وفق الظن الأميركي. كذلك أوصى معهد الأمن القومي الإسرائيلي تحت عنوان “روح جديدة في العلاقات الإسرائيلية – اللبنانية” بالإصرار على أن يكون الترسيم الدائم للحدود البرية، الذي يستلزم تنازلات (!) إسرائيلية في نقاط متنازع عليها، جزءاً من اتفاق شامل بين المدعوة “إسرائيل” ولبنان. وينبغي بحسب هذا المعهد الصهيوني أن يتضمن الاتفاق مطلباً بنزع سلاح حزب الله بالكامل، وإحداث “تغييرات” (!) في العلاقات بين البلدين.

فليطمئنّ القاصي والداني، الأميركي والأوروبي المتصهين والعربي المنبطح، وليطمئنّ الإسرائيلي نفسه: من اليوم وحتى قيام الساعة ومجيء مسيح اليهودية، لن يحصل في أي شكل من التطبيع المشتهى بين لبنان والكيان، ولن يكون في أي يوم كمحتلّ لفلسطين وذابح لشعبها وللشعب اللبناني قبولٌ أو اعتراف من غالبية الشعب اللبناني المطلقة (باستثناء أقلّية متصهينة تاريخيّاً)، فالصهاينة مكروهون إلى يوم الدين، وسيبقون كذلك. فإذا كانوا حتى هذه اللحظة مكروهين من الشعب المصري بأسره (رغم اتفاق كامب ديفيد المشؤوم) ومن الشعب الأردني (رغم اتفاقية وادي عربة سيئة الذكر) فكيف، بالأحرى، لا يكونون مكروهين وممقوتين وملفوظين من الشعب اللبناني الذي عانى منهم الويلات والمآسي والمجازر منذ نكبة 1948، فهل بلغ بهم الصلف والجنون إلى حدّ التخيّل أنّهم سيكونون مقبولين من الغالبية الساحقة للشعب اللبناني؟ الصهاينة مجانين حقّاً، واهمون، يركبون المركب الخشن تاريخياً، مع الشعوب العربية، ومع شعبي فلسطين ولبنان. سيبقون من ذوي الأوهام المستحيلة والطموحات الخائبة.

مقالات ذات صلة