طوفان الأقصى: الغرب والأخلاق والاتجاه المعاكس

محمد صيام

حرير ‏شهد يوم السابع من أكتوبر/ تشرين الأول الماضي حدثاً تاريخياً مفصلياً في مسيرة التحرّر الفلسطيني، ومقاومة الاحتلال، حين استيقظ العالم، في ما عرف إسرائيلياً بصباح السبت الأسود، على عملية عسكرية تحت اسم طوفان الأقصى، نفّذَتها كتائب عز الدين القسام، الجناح العسكري لحركة حماس الفلسطينية، ضد مستوطنات الاحتلال الإسرائيلي في غلاف قطاع غزّة، وهذه تسمية مُلطَّفة لمجموعة من المستوطنات أقيمت بُعيد النكبة الفلسطينية عام 1948، كان الهدف الأساسي منها حجز (ومنع) الفلسطينيين الذين هجَّرَهم الاحتلال من أراضيهم باتجاه قطاع غزّة، حين كان بعض منهم ينظر من غزّة إلى بيته وحقله على مرمى حجر، فيحاول العودة إليهما من خلال عبور عدّة كيلومترات، لكن بنادق جنود الاحتلال كانت تحول بينه وبين ذلك، ثم جاءت هذه المستوطنات كحلّ دائمٍ لتفصل القطاع بكامله ومَن فيه من المُهجَّرين عن أراضيهم، بحيث لا يفكّرون بالعودة إليها مطلقاً. ومنذ ذلك الحين، أصبح هناك سياج فاصل، تقبع خلفه مجموعة من المستوطنات، في ما عُرف باسم غلاف غزّة.

بالعودة إلى 7 أكتوبر، الذي أظهرَ العالمَ كلَّه، وخصوصا الغرب والولايات المتحدة، منكشفاً من كل غطاء، وسقطَت عنه ورقة التوت التي كانت تُخفي وراءها عورات حقوق الإنسان، والقانون الدولي، وغيرهما من شعاراتٍ أصبح العالم كله يعلم أنها زائفة، أو على الأقل متحيّزة ويُكال فيها بمكيالين في شكلٍ فجٍّ عنيفٍ من ازدواجية المعايير. بدا الغرب وكأنه جُنّ جنونه، وأصبح يهذي من غير وعي على وقْع الصدمة، ولردّ الفعل هذا ما يبرّره في السياق الغربي، فبالإضافة إلى التحالفات الوطيدة بين الغرب و”إسرائيل”، لكن ربما أيضاً، بدأت تراود الغرب هواجس عودة معاناته من المشكلة اليهودية فيما لو انهارت إسرائيل، وفشل مشروعها الاستعماري، وعاد اليهود إلى أوروبا بكل ما يحملونه معهم من مشكلات. بقدْر ما جاءت تلك العملية كاشفةً وفاضحةً عُوار العالم الغربي والنظام السياسي الدولي، فقد وجَّهَت له صفعة جعلته يقف مشدوهاً أمام هول ما يرى، وأجبرَت ذاكرته على استحضار قضية فلسطينية، أُريدَ لها أن تنتهي على موائد أهل السياسة، وتُطوى صفحتها على واقع فلسطيني منقسم على نفسه، فهناك غزّة محاصرةٌ تسعى فقط إلى البقاء على قيد الحياة، وضفة غربية مخنوقة لا تكاد تتنفّس تحت سطوة السلطة الفلسطينية من جانب، وملاحقة قوات الاحتلال من جانب آخر. كان هذا هو المشهد الختامي المرسوم من أطراف دولية وإقليمية عديدة، قبل أن يُسدل الستار على القضية الفلسطينية.

ومن جانب آخر، كانت الولايات المتحدة، والرئيس بايدن تحديداً، يسعيان إلى إحداث خرق في مسار التطبيع، يساعده على الصمود في وجه ترامب في الانتخابات الرئاسية المقبلة، لكن عملية طوفان الأقصى جاءت لتخلط جميع الأوراق، وتعيد القضية الفلسطينية إلى واجهة الصدارة العالمية، بل تخطَّت في ذلك قضايا عالمية ساخنة، كالحرب الروسية الأوكرانية مثلا. هذه الملابسات كلها وغيرُها، أدخَلَت العالم منذ ذلك اليوم في زحمة من الأقوال والأفعال الداعمة للاحتلال، في تعطيل كامل لأي مرجعية أخلاقية تضبط كفّتي الميزان بين الضحية والجلاد، ركّز الموقف الغربي على شيطنة المقاومة، وتصويرها معتدية متوحّشة، وكان هذا متوقّعاً بالمنطق الغربي الذي أوجدَ الاحتلال أصلاً. وزيادة على ذلك، استسهَل الهجوم على المقاومة، لأنها تتبع لحركة ذات خلفية إسلامية. وبالتالي، هذا عامل مُحفِّز للوصم بالإرهاب، وفي الوقت نفسه، يتم تصوير الاحتلال “المذنب الحقيقي” ضحية، ومن حقّه الدفاع عن النفس، لكن المفارقة في الموضوع أن الغرب، وهو يكرّر هذه الشعارات، يعلم أنه يمارس ازدواجية معايير مقيتة، ويكذب أول ما يكذب على نفسه، لأن مشكلة فلسطين حديثة العهد بالتاريخ، لم تمض عليها ألف سنة مثلاً بحيث تختلط فيها الروايات، أو يصعب التحقُّق من ملابساتها الحقيقية، بل إن بعض رموز الغرب كان شاهداً على تلك المرحلة التاريخية، والكيفية التي أقيمت بها دولة الاحتلال على دماء السكّان الأصليين وأشلائهم وأرضهم، وفي مقدمة تلك الرموز الرئيس الأميركي، جو بايدن، الذي كان يبلغ في ذلك الحين ست سنوات، ثم شاهَد في بقية عمره الفظائع والمجازر والتهجير الذي تعرّض له الشعب الفلسطيني. ومع ذلك، يَعتبر الاحتلال ضحية تجب مساندته بالقوة والمال والموقف السياسي، وهنا لا بد من الحديث بشكل أكثر صراحة، فالحقيقة أشدّ سطوعاً وقوةً مهما حاول الغرب غضّ الطرف عنها، أو تجاهلها، ومهما حاول المذيع البريطاني، بيرس مورغان، سحب العالم كله من دون كلل أو ملل، ليُدين ما قامت به حركة حماس في برنامجه التلفزيوني، وحتى لو استطاع ذلك، فإنه لن يستطيع بينه وبين نفسه على الأقلّ، في لحظة صدق، أن يتنكّر للحقيقة المجرّدة ولو مرّة واحدة.

ومع هذه الأجواء المغبرّة برذاذ الكذب العالمي العمْد، والتجاهل المقصود، يمكن القول، بكل بساطة، إن المقاومة الفلسطينية في 7 أكتوبر قامت بما تقرّه جميع الشرائع الدولية والإنسانية، فالعملية برمّتها لم تكن أكثر من ممارسة شرعية قانونية يعترف بها القانون الدولي في إطار حقّ الشعوب في مقاومة الاحتلال، إنها مجرّد حلقة في سلسلة تاريخية لشعبٍ يريد تحرير أرضه واسترداد حقوقه، مع إقرارنا بالتأكيد على ضرورة التقيّد بأخلاق الحرب، بعدم قتل المدنيين والأطفال والنساء، وهذا ما ظهر في ممارسات المقاومة الفلسطينية مهما حاول الاحتلال تصويره بغير ذلك، فالصورة والصوت لا يكذبان، لكن الناطقين الإعلاميين والعسكريين التابعين للاحتلال اتّضح أنهم يكذبون. وعلى ذكر عدم قتل المدنيين في الحرب الذي نقرّه دينياً وأخلاقياً وقانونياً، وحتى نكون واضحين أكثر، هل هؤلاء الذين يقال عنهم مدنيون هم “جميعا” مدنيون حقّا؟

يعرف العالم كله أن جميع الدول “دول لها جيوش”، إلا “إسرائيل”، فهي “جيش له دولة”، لأن مواطنيها في غالبيتهم مسلّحون، أو جنود احتياط، أو جنود سابقون، باستثناء الأطفال. وفي الواقع، أي إنسان يأتي إلى فلسطين المحتلة “إسرائيل” للاستيطان فيها، أو الاعتراف بشرعيتها، فإنه يأتي بشكل غير شرعي وغير قانوني، وهو لصٌّ دخيلٌ محتلٌّ معتدٍ، جاء ليختار بقعةً على أرض لا يعرفها، ليسرقها ويستوطن فيها، بناء على منطق المستوطن الإسرائيلي، يعقوب فاوتشي، في أثناء إجابته للفلسطينية المقدسية مُنى الكرد عن سؤال، لماذا تسرق بيتي؟ فأجابها: “إذا لم أسرقه سيسرقه غيري”.

وعلى هذا الأساس، هؤلاء الذين هوجموا في غلاف غزّة هم، في أحسن أحوالهم، دخلاء معتدون على أرض اغتصبوها من أصحابها الأصليين، وهذا يعيدنا إلى النقطة الأساسية في جوهر الصراع وأساس المشكلة، وهو الاحتلال الذي سرق الأرض وقتّل الشعب الفلسطيني وهجَّرَه، لا ننفي وجود “مدنيين” كأقلية في عموم الشعب الإسرائيلي، نرفض قتلهم، ولكنهم يعيشون في ظل دولة احتلال، وهم بالتالي مشاركون فيه، وبعض المدنيين ظاهراً، عسكريون باطناً، وربما يكون لهم ماضٍ دامٍ مع الشعب الفلسطيني، فالعجوز الإسرائيلي الأسير لدى كتائب عز الدين القسام، آريه زالمن زدمانوفتش (86 عاماً) الذي مات في غزّة نتيجة الهلع من القصف الإسرائيلي على القطاع، اكتُشف أنه، قبل 65 عاماً، أقام هو ورفاقه من جيش الاحتلال الصهيوني مستوطنة نير عوز على دماء قرية معين أبو ستة التي تقطنها قبيلة الترابين البدوية الفلسطينية، وذلك بعد قتل وتهجير أهلها. أما الأسيرة الإسرائيلية العجوز يافا آدار (85 عاما) التي كانت أسيرة أيضاً في غزّة، فعُرف أنها أحد مؤسّسي المستوطنات، ومع ذلك أطلقت المقاومة سراحها، وما هذان إلا مثالان فقط لمن يقال عنهم مدنيون.

الخلاصة، هناك حقائق مجرّدة يتجاهلها العالم الغربي عن قضية الشعب الفلسطيني. وفي هذا التجاهل يعطّل العمل بالأخلاق والقانون إلى إشعار آخر، وتصبح المقاومة الشرعية للاحتلال عديمة الأخلاق ومنتهكة للقانون! مع العلم أن أكبر دليل على أخلاقيات المقاومة الفلسطينية في تعاملها مع “المدنيين” الإسرائيليين، أنها تجاهلت كونهم محتلين، وجزءاً من كيان غاصب، واعتبرتهم فعلا مدنيين، فبادَرَت بالعرض لإطلاق سراحهم منذ الأيام الأولى للعدوان الإسرائيلي على القطاع، لكن الاحتلال رفض العرض، مكابرةً وعناداً، ظنّاً منه أنه سيصل إليهم ويحرّرهم بالقوة، ويستعرض مشهداً هوليوودياً أمام جمهوره المصدوم، فيُظنّ بعد ذلك، أن الجيش ما زال بخير، وأنه ينتصر، ولكن الحقيقة غير ذلك، والدليل أن “إسرائيل” قبلت بعَرض المقاومة الأول، ولكن بعد 48 يوماً من إنجاز لا شيء، سوى الدمار والقتل.

مقالات ذات صلة