سيكولوجية ترامب: “بطل المسلسل” والمخدّرون في تأييده

مراد الشيشاني

حرير- مشهد الرئيس الأميركي دونالد ترامب ونائبه سي جي فانس متربّصين، وشاعرين بالإهانة (حسب مؤيديهما) من الرئيس الأوكراني فلوديمير زيلينسكي، وانتهاءً بـ “توبيخه”، حتى وصل الأمر إلى طرده من البيت الأبيض، مشهد غير مألوف وقد لا يتكرّر. التداعيات اللاحقة، من وقف الدعم الأميركي (واشنطن أكبر المزوّدين العسكريين لكييف في حربها ضد العدوان الروسي)، وترحيب الأوروبيين بزيلينسكي، واعتبار حادثة البيت الأبيض جرس إنذار لزيادة الإنفاق الدفاعي لدى أوكرانيا، واعتبار تصريحات الرئيس الأوكراني، بعد أيام، اعتذاراً، كلها دلّلت على تأثير القادم الجديد إلى البيت الأبيض، ويبدو أن أسلوب فتح المجال للصحافيين، مرّات من دون التنسيق والإعلان، كما حدث مع العاهل الأردني عبد الله الثاني، كلها تصب في عقل ترامب، ونمط تفكيره السيكولوجي.

… يتعامل ترامب مع رئاسته كما لو أنها مسلسل درامي تلفزيوني، وقد صرّح هو بذلك، إذ اعتبرت قطاعات كبيرة من الأميركيين مسلسلات معينة، وحتى قبل امتداد خدمات تطبيقات البث كنتفليكس، وبرايم أمازون، وآبل تي في، وغيرها، نوعاً من الأوقات المقدسة لهم. حتى ترامب ولع بالظهور التلفزيوني الاجتماعي حتى قبل تقلّده الرئاسة، فظهر في واحد من أجزاء أحد أشهر أفلام عيد الميلاد Home Alone (في المنزل وحيداً)، وفي مسلسل Simpsons، القائم على شخصيات كرتونية للكبار، وكان مصدر حديث في واحدة من حلقات المسلسل الشهير “الأصدقاء”، ويقال إن الظهور مدفوعٌ على شكل دعايات في هذا المسلسل.

هذا الانخراط بالثقافة الشعبية واحدة من مزايا ترامب، وقد نقل دان ماك أدمز، في كتابه “الحالة الغريبة لدونالد جي ترامب: فهم سيكولوجي”، تلك الفكرة عن رؤية ترامب لرئاسته الأولى كمسلسل أميركي درامي، يُبقي المشاهدين مشدودين إلى أحداثه. وهو ما حصل مع زيلينسكي، وغيره، فترامب يريد دوماً أن يكون في دور البطولة، وبشكل درامي. ماك أدمز، الذي استعار العنوان من قصة الاسكتلندي روبرت لويس ستيفنسون “الحالة الغريبة لجيكل وهايد”، وهو الكتاب الذي يحلّل نوازع الشر والخير عند الإنسان بقصة الطبيب المحترم الذي يتحول إلى قاتل ليلاً، وكأنها محاولاتٌ مبكّرة (الكتاب نشر 1886) لفهم الشيزوفرينيا وأنماط الانفصام لدى البشر.

بهذا المنطق، يقدم ماك أدمز تحليله السيكولوجي شخصية ترامب، ويخلص إلى أن ترامب يجمع صفات بين التزييف والأصيل، لكنه يخلص إلى أنه “مُزَيَف أصيل”. ولعل هذا التحليل السيكولوجي يعبر عن فروق ترامب في رئاسته الأولى والآن. في فيلم “الخداع” Deception والمعروف أيضاً بـ “أفضل عرض” the Best Offer، ينقل عن خبير اللوحات والأنتيك فرجيل اولدمان (ويقوم بدوره جيفري راش)، مقولته بأن “هناك شيئاً أصيلاً في كل عمل مزيف”، ويفسر أن المُزيف لا يستطيع أن لا يقاوم وضع لمسته الحقيقية في اللوحة أو العمل الفني الذي يزوّره أو يزيفه. بهذا المعنى، تحدث كثيرون عن أن ترامب يعود في رئاسته الثانية أقرب لرجل دولة، من حيث نسج العلاقات، واختلاف التصريحات والسلوكيات عن الولاية السابقة، لكن هذا مثل التزييف، لم يستطع أن يلعب الدور، بحكم استيائه من المؤسّسة الحاكمة، سواء بتقديمه أنه من خارجها، وهي إحدى نقاط قوته، أو حتى لكرهه سلفه جو بايدن، لكن هذا كان على حساب منطق السياسة الأميركية، وهذا يفسر التغيير الطارئ في السلوك والخطاب، لكنه ما زال ترامب ابن الثقافة الشعبية، والمتمرّد على مؤسّسة الحكم، والأهم بطل المسلسل.

ولتوضيح هذه الشخصية، قدّم ترامب نفسه وسيطاً، لا طرفاً في الصراع الروسي الأوكراني، وردّ عليه زيلينسكي بأن الطرف الروسي هو المعتدي، لكن ترامب أبى إلا أن يكون سياسياً محايداً. لم يتكرّر مثل هذا الأمر في حالة غزّة، والأفكار التي يطرحها لحل الصراع فيها بفيديوهات تجلب الشتائم له ولمشروعه بين أوساط عربية. رغم شبه الإجماع الأميركي، على المستوى الرسمي، بأن حركة حماس هي المعتدية في 7 أكتوبر (2023). وبالنظر في هذا الصراع المعقد التاريخي، منذ ذلك التاريخ فحسب، لم يقدّم ترامب نفسه وسيطاً، لا بل داعماً ومؤيداً للجانب الإسرائيلي، فالموضوع إذاً لا يرتبط بدور قيادي أميركي وسيط، بل براغب في أن يكون محط الأنظار دوماً.

كذلك تعامل الأوروبيون عبر استقبال ودّي وحميم لزيلينسكي في لندن، وتخصيص مؤتمر لدعمه، وإنْ كان تعبيراً عن حاجة استراتيجية وجيوسياسية في مواجهة روسيا، وتعبيراً عن تخفيف حدّة الخلاف الأميركي – الأوكراني بعد اللقاء الهستيري، فإنه يعبر عن تحليل سيكولوجي لترامب، بمحاولة دفعه باتجاه منطق الدولة، بشكلٍ يوحي بأنه محاولة استثمار التغيير الطفيف في شخصيته، أو تعزيز التزييف في الشخصية، ليبدو على شكل رئيس دولة.

… وبعيداً عن حكايا السياسة الدولية، ما يثير المخاوف هو في الداخل الأميركي، فبعيداً عن النقد لإدارته، وللقائه مع زيلينسكي، بين أوساط اليسار الليبرالي، أتيح لكاتب السطور أن يحاور زملاء أميركيين، ممن لم يعهد فيهم ميول يمينية أو إقصائية، لكن المفاجأة حجم التأييد لترامب بين أوساطهم بعد اللقاء، وتكرار عبارة “وقاحة زيلينسكي”، وعدم احترامه الأميركيين، ولا لنائب الرئيس جي دي فانس، لأن ترامب خاطبه باسمه الأول، وغير ذلك من مقولاتٍ تشدّد على العظمة التي يبديها ترامب، وعدم قبول فكرة وجود أي سلوكٍ أو سياسة خاطئة لديه، وهي حالة تذكر بمشهد في مسلسل غربي آخر (أو فيلم من جزأين) عن صعود هتلر في ألمانيا “صعود الشر”، حين يقف المحامي الألماني المنفتح مشدوداً لخطاب هتلر، بعد أن دعاه صديقه اليهودي إلى الاستماع له، لفهم من هو. لم يعد الألماني من شدة انجذابه لخطاب هتلر يجيب صديقه اليهودي. كانت من علامات التخدير لدى الناس التي ساهمت في ظهور هتلر. طبعاً، ترامب ليس هتلر، والزمان غير الزمان، وعقد مثل تلك المقارنة مثير للجدل، ورغم ذلك فإن الباحث الألماني هينك دي بيرغ (المدرّس في جامعة شفيلد البريطانية) ألّف كتاباً عن ذلك قارن فيه بين الشخصيتين، في طريقة التواصل مع المؤيدين والناس، والإدارة، ووجود العلامة المميزة بشنب هتلر، وشعر ترامب، وأدائهما السياسي، وخلص إلى أن الشخصيتين نرجسيتان، لكنهما متشابهان بأنهما “ممثلان سياسيان استعراضيان”، وهنا تظهر قوة القدرة على استقطاب الجمهور الجاهز لأسباب سياسية أو اجتماعية، أو ثقافية مختلفة، لكن هذا أيضاً يصبّ في سياسة أكبر دولة، وقراراتها تؤثر في حيوات بشرٍ كثيرين.

ترامب، إذاً، يقدم نفسه سياسيّاً مختلفاً عن فترة رئاسته الأولى، لكنه لا يستطيع إلا القفز إلى شخصيته المتمرّدة، وهذه المرّة بشعبية أكبر، وتأييد متزايد، كالسحر بين أوساط مؤيديه، وقد يراه كثيرون من هؤلاء رجل صفقات، كما يقول كتابه الأول، وبالتالي، هو ينجز في السياسة، ويعطي الأولوية للاقتصاد في الداخل الأميركي، لكن شخصيته النرجسية، تخرج، يوماً بعد يوم، عن ضبط مؤسسة الحكم وترشيدها، فهو ماضٍ في تذكير العالم كل يوم بأنه بطل المسلسل… ومؤيدوه تحولوا إلى محبّين لا يرون غيره مخلصاً.

مقالات ذات صلة