
إسرائيل الجديدة
سمير الزبن
حرير- لا تستهدف الحرب الوحشية الإسرائيلية على الشعب الفلسطيني في قطاع غزّة، وتلك الإجراءات القمعية والتجريف والتهجير في الضفة الغربية، الفلسطينيين فحسب، بل تعمل من أجل تغيير المنطقة أيضاً، حسب منطق رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو. والتغيّر المطلوب هو تغيّر في الخرائط الجغرافية التي تحيط بإسرائيل، والحصول على مناطق عازلة لإبعاد أيّ خطر أمني على إسرائيل، حتى في المناطق الضيّقة، مثل قطاع غزّة من جهة، ومن جهة أخرى، تدخّل فجّ في شؤون دول المنطقة.
تُعيّن إسرائيل الجديدة نفسها إمبرياليةً صغرى في المنطقة قادرةً على ارتكاب جرائم الحرب بلا رادع، بل وبالتهديد بالمزيد منها في حقّ الفلسطينيين أو لبنان أو في سورية التي استباحتها بقصف المواقع العسكرية كلّها التي تركها النظام المنهار، وحطّمت الأسلحة التي اعتبرتها تهديداً لها، مع أن هذه الأسلحة المتهالكة التي تركها النظام لا تُشكّل أيَّ خطر على إسرائيل، والهدف هو جعل السلطة الجديدة في دمشق منزوعة السلاح موضوعياً.
تحوز المكانة الجديدة التي تسعى إسرائيل إلى شَغلها في المنطقة دعماً غير محدود من إدارة دونالد ترامب الجديدة في الولايات المتحدة، الذي ينظر إلى العالم بوصفه مكاناً للربح أو للخسارة، ويجب أن تكون الإدارة الأميركية هي الرابح، وعلى الآخرين الخسارة أمامها دائماً، وهو يتعامل مع العالم بعقلية مدير شركة تطوير عقاري، ولم يتورّع عن الحديث على الاستيلاء على قطاع غزّة، وتهجير سكّانه إلى بلدان أخرى، مع عدم السماح لهم بالعودة إلى القطاع مرّة أخرى، التي سيسعى إلى تحويلها “ريفييرا جديدة”، وبأموال الآخرين، لأن الولايات المتحدة لن تدفع شيئاً في هذا الاستثمار، وعلى الآخرين تمويل مشاريع ترامب بوصفه سيّد العالم. ولاقى هذا المشروع هوىً في إسرائيل، التي يسعى اليمين الإسرائيلي الحاكم فيها إلى الخلاص من سكّان غزّة عبر ترحيلهم، وأقامت وزارة الدفاع الإسرائيلية هيئةً من أجل العمل على تسهيل رحيل سكّان غزّة إلى الخارج، تحت عنوان “المغادرة الطوعية”. فإسرائيل حوّلت قطاع غزّة ركاماً، وجعلته مكاناً غير صالح للعيش، بعد التدمير الوحشي لما يصل إلى 80% من المباني فيه، وتعود الآن بعد تعثّر المفاوضات حول المرحلة الثانية إلى منع المساعدات الإنسانية عن القطاع، والتهديد بقصف ما تبقّى من البنية التحتية ومولدات الكهرباء، كما تهدّد بالعودة إلى الحرب في القطاع. ذلك كلّه يشير إلى أن إسرائيل نتنياهو تعتبر نفسها شريكاً محلّياً للإدارة الأميركية، يجب أن تكون رابحةً طالما الشريك الأكبر رابح دائماً.
إسرائيل الجديدة (وكما قال نتنياهو خلال إعلانه تعيين إيال زامير قائداً جديداً للجيش الإسرائيلي خلفاً لهرتسي هاليفي) تمتلك فرصة تاريخية “لتغيير وجه الشرق الأوسط”. ولكن عن أي تغيير يتحدّث نتنياهو؟
اعتبرت إسرائيل أن “طوفان الأقصى”، الذي قامت خلاله حركة حماس بالهجوم على بلدات غلاف غزّة والمواقع العسكرية الإسرائيلية في السابع من أكتوبر/ تشرين الأول 2023، ونجم عنه مقتل وأسر المئات من الإسرائيليين، وهو ما اعتبرته إسرائيل تهديداً وجودياً، شنّت بعده حرباً مدمّرةً في 15 شهراً، محوّلةً الأغلبية الساحقة من سكّان غزّة نازحين يعيشون في خيام، وتهدّد اليوم باستئنافها إذا لم تفرج حركة حماس عن مزيد من الأسرى. ولطالما نظرت إسرائيل إلى الفلسطينيين في الضفة الغربية وقطاع غزّة مشكلةً داخليةً إسرائيليةً، وتعاملت معها على هذا الأساس، حتى عندما كان وعد السلام يرفرف في المنطقة، والأساس المكوّن لاتفاقات أوسلو (1993) هو أساس أمني في التعامل مع التجمّعات الفلسطينية، لذلك قسّمت الضفة الغربية بين ثلاثة أقسام بسيطرة مختلفة حسب الكثافة السكّانية. بقيت إسرائيل تسيطر على المنطقة “ج” التي هي الأكبر مساحةً والأقلَّ سكّاناً، ومنحت السلطة الفلسطينية السيطرة على ما يعادل 18% من مساحة الضفة، التي فيها حوالي 90% من سكّان الضفة الغربية.
لم يعجب هذا المنطق الأمني اليمين الإسرائيلي الذي سيطر على الساحة السياسية في العقود اللاحقة لاتفاقات أوسلو، ولم يختلفوا في السيطرة على الأراضي الفلسطينية، بل اختلفوا في شكلها، بين “إسرائيل الكُبرى” و”يهودية الدولة”، أيّد آرييل شارون الخيار الثاني، فدفع باتجاه تفكيك المستوطنات من قطاع عزّة (2005). لم يستمرّ هذا الاتجاه طويلاً، ليسيطر أقصى اليمين على الساحة السياسية الإسرائيلية، ويصبح نتنياهو الملك المتوّج في إسرائيل. حصل هذا في ظلّ “حلّ الدولتين”، الذي دعمته الولايات المتحدة الأميركية، لكنّها لم تمارس أيَّ ضغط على إسرائيل من أجل تنفيذه.
مع حرب إسرائيل الأخيرة على قطاع غزّة، أصبحت إسرائيل تتحدّث عن تجاوز “حلّ الدولتين”، وبات المطلوب (حسب التحالف الحاكم) الخلاص من الفلسطينيين بترحيلهم إلى خارج فلسطين، وهذا لا يقتصر على قطاع عزّة، فهناك مخاطر حقيقية من ترانسفير إسرائيلي في الضفة الغربية، ويبدو أن إسرائيل مستعدّة لتدمير واسع في الضفة الغربية، على نطاق واسع، عندما تحين الفرصة، ونحن نرى بروفا هذا الترانسفير بالتدمير الواسع للمباني في المخيّمات في طولكرم وجنين، أسفر عن طرد 40 ألف فلسطينيّ من منازلهم.
لا تستخدم إسرائيل الجديدة القوّة (ومزيدا من القوة) بوصفها الحلّ المثالي لإسرائيل فحسب، بل تسعى إلى إيجاد تحالفات في البلدان المحيطة، واعتبار نفسها حاميةً للأقلّيات، من دون أن تطلب الأقلّيات منها هذه الحماية. أيّ أنها لا تحاول العمل من خلال جواسيس لها في هذ البلاد، كما كانت علاقتها معها خلال الفترة الماضية، بل هي تعتقد أنه بمقدورها اليوم أن تتلاعب علناً بالأوضاع الداخلية لبلدان المنطقة. وهذا ما سعت إليه من خلال إعلان نفسها حاميةً للدروز في الجنوب السوري، في الوقت الذي لم يطلب أيٌّ من أبناء هذه الطائفة الحماية. وقد حدّد نتنياهو ووزير أمنه خطّ دمشق ـ السويداء، وصولاً إلى الحدود، منطقةً يجب أن تكون منزوعة السلاح، وجعلتها منطقةً ممنوعةً على السلطة الجديدة في دمشق. حتى بلغت الوقاحة الإسرائيلية بادّعائها أنها ستحمي الدروز في بلدة جرمانا الواقعة في قلب دمشق.
ليس لدى إسرائيل الجديدة للمنطقة سوى التدمير، والتهديد بالقوة. إنها بلطجيّ الحارة، الذي لا يجد من يردّه إلى رشده، هو في رعاية البلطجيّ الأكبر في العالم، الرجل الجالس في البيت الأبيض. لذلك، فنحن أمام أربع سنوات عجاف في ظلّ إدارة ترامب وربيبته إسرائيل في المنطقة.



