عقيدة إسرائيل العسكرية: الحاجة إلى قتال مستمرّ

نهاد أبو غوش

حرير- تنتشر في إسرائيل على نطاق واسع، وبخاصة في الأوساط السياسية والعسكرية، مقولة إن الجيش الإسرائيلي هو دائماً في حالة حرب، فهو إما يقاتل فعليا على الجبهة أو أنه يستعدّ للحرب المقبلة. تنسب هذه المقولة للجنرال والمفكر العسكري الألماني البروسي كارل فون كلاوزفيتش (1780-1831)، لكن إسرائيل طبّقتها عمليا وتبنّتها حرفيا، كما في الخطاب الرسمي لرئيس أركان جيشها الأسبق غابي أشكنازي، الذي طرحها في العام 2007 بوصفها العبرة الرئيسية من حرب تموز 2006.

تلخّص هذه المقولة مجموعة من الحقائق في آن: تؤكّد أن هذه الدولة المزروعة في قلب الوطن العربي محاطةٌ ببيئة معادية من دول وتنظيمات وشعوب، على الرغم من تبدّل الأدوار وتقلب الأحوال، وهي كذلك تعكس النزعة العدوانية العسكرية لدولة إسرائيل التي، إن لم تجد عدوا فعليا، تبادر إلى اختراعه، ثم تكشف هذه القاعدة الدور الوظيفي الموكل لهذه الدولة من المراكز الغربية الرأسمالية، وهو دور عسكري وأمني بامتياز، ما يعطي الجيش الإسرائيلي دورا محوريا في تسيير شؤون الدولة، ورسم ملامحها والتأثير على سماتها الاجتماعية والاقتصادية والثقافية.

وتحضر هذه المقولة بقوة عقب الجولة من القتال والعدوان، أخيرا، على قطاع غزّة التي استهدفت حركة الجهاد الإسلامي، وأسمتها إسرائيل “رمح وسهم”، في حين أسمتها المقاومة “ثأر الأحرار”، ليتبيّن أنها مجرّد جولة سريعة ضمن سلسلةٍ لا تنتهي من جولات القتال.

يميل الفلسطينيون إلى تسمية هذه الجولات المثقلة بالخسارات والضحايا في صفوف المدنيين حروبا، بينما تسمّيها إسرائيل عمليات عسكرية وحملات، ومع صعوبة التفريق القاطع بين حرب ومعركة أو عملية عسكرية واسعة، فإن إحصاءها وتصنيفها ليسا سهلين، فهي تصل إلى نحو عشر جولات منذ العام 2007 فقط، وكلها تحمل من الزاوية الإسرائيلية أسماء ذات صبغة أدبية، هي أقرب إلى أسماء الروايات وأفلام الحركة: شتاء دافئ، والرصاص المصبوب، وإعادة الصدى، وعامود السحاب، والجرف الصامد، وحديقة مغلقة، والحزام الأسود، وحارس الأسوار، والفجر الصادق، والسهم والرمح، إلى جانب الحملة المستمرّة في الضفة الغربية والمسمّاة “كاسر الأمواج”. يميل الفلسطينيون، وتحديدا فصائل المقاومة، إلى إطلاق أسماء تعبوية متفائلة، مستوحاة من التراث والمقدّسات، وتبرز الجانب الجوهري في المعارك، وهو القتال، مثل معركة الفرقان وحجارة السجّيل والعصف المأكول. من بين كل هذه المعارك، فقط عملية الجرف الصامد “العصف المأكول” أسمتها إسرائيل حربا بقرار من لجنةٍ وزاريةٍ متخصّصة، لتضيفها إلى سلسلة من الحروب التي لا تنتهي: 1948، العدوان الثلاثي 1956، يونيو/ حزيران 1967، حرب الاستنزاف 1970-1971، حرب أكتوبر 1973، حرب 1982 أو عملية سلامة الجليل، بالإضافة إلى الانتفاضتين الفلسطينيتين الكُبريَين عامي 1987 و2000، اللتين شملت كل منهما زجّ عشرات ألوف الجنود وأفراد الشرطة الإسرائيليين في العمليات القتالية، واستخدام أحدث أنواع الأسلحة بما فيها الطائرات الحربية من نوعي إف 15 وإف 16، التي شاركت في قصف المدن الفلسطينية في الضفة الغربية وقطاع غزة. فالانتفاضة الثانية (انتفاضة القدس والأقصى) على سبيل المثال اشتملت على عملية “السور الواقي” التي تخلّلتها مجموعة كبيرة من المعارك، أبرزها معركة مخيم جنين.

ثمّة إذاً اعتبارات عملياتية عسكرية وسياسية تدخل في تصنيف الحروب والمعارك، منها حجم الخسائر والتشكيلات العسكرية المشاركة في الحرب، إلى جانب الاعتبارات المعنوية، حيث لا ترغب المؤسّسات الإسرائيلية الحاكمة في الإثقال على “سكان الدولة” وإشعارهم بأنهم في حالة حرب مفتوحة لا تتوقف ولا تنتهي، فضلا عما يمكن أن يسببه ذلك من أضرار لحجم الاستثمارات والسياحة وصورة إسرائيل “الناعمة” أمام العالم.

ابتكر القادة العسكريون الإسرائيليون حلّا لهذه “المعضلة”، فهم بحاجة إلى هذه الحروب المستمرّة، ولكنهم حريصون، في الوقت نفسه، على تصوير إسرائيل دولة ترغب في العيش بسلام مع جيرانها. ولذلك جاء تكتيك “المعارك بين الحروب”، وفيها ينفذ الجيش عمليات عسكرية محدودة، وغالبا ما تكون سريعة وخاطفة، تعتمد هذه المعارك بشكل خاص على القدرات الاستخبارية المتطورة، وتميل إلى ضرب “العدو” خلال محاولات بناء وتطوير قدراته العسكرية، وكردّ على التهديدات التي تنشأ خارج حدود دولة إسرائيل. من الأمثلة البارزة على مثل هذه المعارك عمليتا ضرب المفاعل النووي العراقي (1981) والسوري (2007)، ومواصلة ضرب شحنات السلاح الإيراني على الأرض السورية، وكذلك ضرب قوافل السلاح التابع للمقاومة الفلسطينية على الأراضي السودانية، والسيطرة على شحنات الأسلحة الموجهة للفلسطينيين في سفينتي سانتوريني وكارين A خلال الانتفاضة الثانية.

يمكن النظر إلى المعارك بين الحروب تكتيكا وقائيا لمنع تنامي قوة الخصوم، وللحيلولة دون تشكيلهم بعد ذلك خطرا مضاعفا، ولو اقتصر الأمر على ذلك، لاعتبر أن استدامة المعارك والحروب بالنسبة لإسرائيل ضرورة دفاعية في ضوء الادّعاءات أنها محاطة بالأعداء الذين يتطلعون للقضاء عليها من كل جانب. ولكن، في عالم مليء بالحروب، يتبيّن أن تصنيع الأسلحة وتجارتها وتقديم الخدمات الأمنية المرتبطة بها قطاعات مربحة جدا، بل باتت صناعة السلاح المقترن بالتكنولوجيا الحديثة القطاع الرائد في الاقتصاد الإسرائيلي بحجم مبيعات يصل إلى أكثر من 12 مليار دولار سنويا. وتوجد في إسرائيل نحو ألف شركة متخصّصة في إنتاج الأسلحة وتسويقها وبيعها، وباتت هذه الشركات تستقطب ضباط الجيش وخبرائه المُسرّحين، ومن بين هذه الشركات أربع تتبوأ مكانة لها ضمن أكبر مئة شركة تصنيع أسلحة في العالم، وهي إلبيت (المركز 29)، والصناعات الجوية (32) ورفائيل (45) وتاعس (99)، وقد تقدّم قطاع صناعة الأسلحة الإسرائيلي المندمج والمتكامل مع شركات السلاح الأميركية، مثل لوكهيد مارتن وبوينغ ونورثروب غرومان، لتحقق إسرائيل قفزاتٍ نوعية في نادي تجّار الأسلحة وتصبح من المنافسين بقوة على دخول نادي الخمسة الكبار إلى جانب الولايات المتحدة والصين.

وتتميز المنتجات العسكرية الإسرائيلية بأنها مُجرّبة في الميدان، في الحروب والمعارك التي بينها، وفي جولات القتال، والعمليات المحدودة، لا في المختبرات والمناورات وتجارب المحاكاة الافتراضية فقط، وباتت هذه المعارك الميدان الحقيقي لتجربة آخر ما توصلت إليه صناعات القتل والفتك بالبشر، ومن الأمثلة الواضحة على ذلك أن تجربة القبّة الحديدية بدأ الإعداد لها بعد حرب تموز 2006، وتطوّرت في سياق الحروب والعمليات المتكرّرة على قطاع غزة. كما شهدت هذه المعارك تطوير وتجربة أنماط جديدة من أسلحة الدفاع الجوي، مثل “معطف الريح”، وقد شهدت جولة القتال أخيرا تجربة نظام الدفاع الجوي الجديد المعروف بمقلاع داود، والذي ما زالت تكلفة استخدامه عالية جدا.

تمثل الصناعات العسكرية الإسرائيلية المرتبطة بالتكنولوجيا الحديثة رافعةً للاقتصاد الإسرائيلي، لكنها توفّر أيضا مدخلا لتعزيز النفوذ الإقليمي والدولي لإسرائيل، ويكفي أن نطالع قوائم زبائن السلاح الإسرائيلي (على الأقل 130 زبونا دوليا بما يشمل دولا وتنظيماتٍ ومليشيات متقاتلة حتى في الدولة الواحدة نفسها، مثل الواقعة التي افتضحت في جنوب السودان). وبفحص أبرز مستوردي السلاح الإسرائيلي، نُفاجأ بدولٍ كانت محسوبة تاريخيا من أنصار العرب والفلسطينيين، مثل الهند وفيتنام وأذربيجان وإيطاليا. وأخيرا، جرى الكشف عن صفقة تزيد قيمتها عن مليار دولار بين هولندا وإسرائيل، ما يدفع هذه الدولة “المسالمة” إلى مقدّمة زبائن إسرائيل العسكريين.

وتشهد جولات القتال التي تخوضها إسرائيل ضد الفلسطينيين، وضد قطاع غزة بخاصة، سلسلة من عمليات التطوير لأسلحة تقليدية وشبه تقليدية، من ذلك ما نقله موقع والاه العبري عن تطوير خبراء الصناعات العسكرية الإسرائيلية استخدام قنبلة ذكيّة تحصل عليها إسرائيل من الولايات المتحدة، فقد ذكر الموقع في 18 مايو/ أيار الحالي أن إسرائيل تحصل على القنبلة SDB ووزنها 125 كغم من الولايات المتحدة، لكن خبراء سلاح الجيش الإسرائيلي هم الذين يعرفون كيفية إدخالها من نافذة في المبنى! في إشارة إلى عدّة عمليات اغتيال طاولت مسؤولين من حركة الجهاد الإسلامي في الحملة أخيرا.

تتغيّر الظروف ويتبدّل الخصوم من دول قومية عربية إلى خطر التنظيمات الإسلامية والخطر النووي الإيراني، وكل ذلك إلى جانب العدو الثابت وهو الشعب الفلسطيني بتشكيلاته المختلفة، وتبقى العقيدة العسكرية الإسرائيلية راسخة، لكونها باتت مصدرا لقوة هذه الدولة ونفوذها، وعنوان هذه العقيدة الحاجة إلى قتال دائم ومستمرّ: حروب ومعارك بين الحروب وجولات قتالٍ لا تنتهي. وفي المقابل، ثمّة أشياء كثيرة تتغيّر ببطء، فوتيرة هذه المعارك بين الحروب باتت أقصر من قبل، ولم يعد في الإمكان الاقتصار على ضربات سريعة وخاطفة، أو حصر القتال في أراضي العدو، ولا تحقيق نتائج حاسمة في أي جولةٍ، وبخاصة حين تكون هذه المعارك والحروب ضد شعبٍ ينشد الحرية، وليست ضد أنظمة وجيوش.

مقالات ذات صلة