
عندما استقالت نعمت!
سليمان المعمري .. كاتب عٌماني
كان يمكن لهذا المقال أن يكون افتخارًا بشخصية عربية فذة، حققت نجاحًا كبيرًا بجدّها واجتهادها وعصاميتها، كون نعمت شفيق مصرية الأصل والجنسية (إضافة إلى جنسيّتيها الأخريين: الأمريكية والبريطانية)، فقد كانت في عمر السادسة والثلاثين أصغر نائب لرئيس البنك الدولي على الإطلاق، وكانت أيضًا نائب محافظ بنك إنجلترا في فترة من أصعب فتراتها الاقتصادية ألا وهي فترة خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي التي تعرف اختصارًا بـ”البريكست”، إذ كانت تتولى الإشراف على ميزانية عمومية حجمها أكثر من ستمائة مليار دولار، وباللهجة الدارجة يمكن أن نقول إنها كانت “تلعب بالفلوس لعب”، وكانت ذات يوم رئيسة لكلية لندن للاقتصاد والعلوم السياسية، قبل أن تصبح العام الماضي أول امرأة تترأس جامعة كولومبيا في نيويورك، التي هي واحدة من أهم وأعرق جامعات العالم. هذا عدا حصولها على لقب سيدة العام في بريطانيا عام 2006، وتكريم الملكة إليزابيث الثانية لها ومنحها إياها وسام الإمبراطورية البريطانية عام 2015، واختيارها من قبل مجلة “فوربس” الأميركية ضمن قائمة النساء الأكثر نفوذا في العالم عام 2017، واختيارها كذلك ضمن قائمة “100 امرأة رائدة في الصناعة المالية الأوروبية” عام 2018، وحصولها على شهادات دكتوراه فخرية من عدد من الجامعات. كل هذه إنجازات قلّ أن يحققها شخص واحد، وتدعو فعلًا للافتخار بنعمت شفيق، لولا الأفعى السامة التي سقطت في إناء الحليب فلوّثته. وحدث ذلك تحديدًا في 18 أبريل 2024.
في ذلك اليوم أصدرتْ نعمت شفيق بصفتها رئيسة جامعة كولومبيا قرارها المخزي باستدعاء الشرطة إلى حرم الجامعة العريقة في نيويورك التي تترأسها منذ يوليو 2023م، لفض اعتصام طلاب مؤيدين للقضية الفلسطينية ومندِّدين بالإبادة الجماعية في غزة التي ترتكبها إسرائيل منذ السا..بع من أكتو..بر 2023م، ومُطالِبين الجامعة بسحب استثماراتها في شركات مؤيدة لإسرائيل، فاعتقلت الشرطة نتيجةً لذلك نحو مائة طالب. وعوضًا عن أن يؤدي هذا القرار الأحمق لإخماد احتجاجات جامعة كولومبيا، فقد أشعل – على النقيض من ذلك – فتيل الاحتجاجات الطلابية في جامعات أمريكية أخرى مثل بنسلفانيا وأريزونا وويسكونسن ماديسون ونيومكسيكو، ومعهد ماساتشوستس للتكنولوجيا، وغيرها، لدرجة أن مدونين مؤيدين لفlesطين شكروا نعمت شفيق بسخرية في وسائل التواصل الاجتماعي على قرارها ذاك، لأنه خدم – دون قصد – القضية الفلسطينية ونشرها، ليس فقط في أوساط الطلاب الأمريكيين، بل في العالم أجمع بعد أن تناقلت وسائل الإعلام احتجاجات هذه الجامعات الأمريكية.
المفارقة هنا أن خسارة نعمت كانت مضاعفة؛ فلا هي أمِنتْ – بقرارها ذاك – غضبَ مؤيدي القضية الfلسط.ينية، ولا ضمنتْ رضا اللو.بي الصهيوني المؤيد لإسرائيل. فالطلبة وأساتذة الجامعات في أمريكا نددوا بها لانتهاكها حرية التعبير في الجامعة، ولأنها “شاركت في اعتداء غير مسبوق على حقوق الطالب”، وفي المقابل طالب أنصار اللو.بي الصهيوني في مجلس النواب الأمريكي بإقالتها لأنها في نظرهم لم تبذل جهدًا كافيًا لمنع ما وصفوه بـ “معاداة السامية” في جامعتها، والتي تعني قمع الطلاب بشكل أكبر، وقد استجوبوها لعدة ساعات في المجلس، وتذللتْ لهم أيما تذلل، خشية أن يصير مصيرها كمصير رئيستي جامعتَيْ هارفارد وبنسلفانيا اللتين أجبرتا على الاستقالة للسبب المزعوم نفسه؛ التساهل مع “معاداة السامية”! ولذا فقد تفاخرت نعمت خلال ردها على أسئلة لجنة التعليم والقوى العاملة بالكونغرس الأمريكي أنها أوقفت خمسة عشر طالبا في جامعة كولومبيا عن العمل، كما أخبرت اللجنة أن أحد الأساتذة الزائرين، الذين جهروا برفضهم لممارسات الكيان الإسرائيلي، واستمرار الإبادة الجماعية في قطاع غزة، طُرِدَ شرّ طردة، ولن يعمل أبدا في جامعة كولومبيا مرة أخرى. وحين سئلت عما إذا كانت ستعزل أستاذا آخر من منصبه القيادي، لتضامنه مع فلسطين، سارعت إلى الرد بالإيجاب، وتحدثت بإسهاب عن التفاصيل التأديبية، التي عادة ما تكون سرية بالجامعات، كل ذلك لتقنع لجنة مجلس النواب أنها لم تتقاعس في محاربة “معاداة السامية”. فهل اقتنع المجلس؟ لا طبعًا، بل طالبها بعض أعضائه بالاستقالة.
يوم الأربعاء الماضي (14 أغسطس) استسلمت نعمت أخيرًا وقدمتْ مرغمةً استقالتها من جامعة كولومبيا، مسدِلة الستار على أربعة أشهر من الشدّ والجذب ملأتْ فيها الدنيا، وشغلت الناس. نالت نعمت شفيق نهاية يستحقها كل من يتجاهل أن العالم لن يدمره الأشرار فقط، وإنما أيضًا أولئك الممالئون لهم، الساكتون عن جرائمهم، وأنه قد لا يقف الحق دائمًا إلى جانب القوي، ولكن القوة – كل القوة – تقف دائما إلى جانب الحق.
سليمان المعمري
جريدة عُمان. عدد الأحد. 18 أغسطس 2024م: