هل انتصرت حماس في الحرب؟

يحيى كامل

حرير- أخيراً انتهت هذه المعركة، أو هي في سبيلها إلى الانتهاء. بنظرةٍ واقعيةٍ للأمور لا أستطيع أن أزعم أن الحرب وضعت أوزارها، بل هي هدنة.. وقد تطول..

لا يعود الأمر كون الأسباب الموضوعية التي أدت إلى الانفجار لم تزل قائمةً فحسب، بل زادت عواملها ومؤججاتها، فالقضية في الأساس قضية حقٍ لم يزل مسلوباً وقهرٍ يتعاظم ودماء غزيرة أريقت ودمارٍ وشتات، وغربٍ ينازع لاستمرار سيادةٍ لم يعد يملك أسبابها، إزاء شرقٍ تنهض قواه الكبرى، تسحب البساط وتهدد الهيمنة، ولما كانت إسرائيل مشروعاً غربياً بامتياز، فإنه (أي الغرب) في سعاره للبقاء والحفاظ على مكاسبه من المرجح أن يستمر في إطلاق كلبه ينهش بمزيدٍ من الشراسة.

بكل تأكيد أشعر كغيري براحة.. على الأقل توقفت المجزرة، وإن كنت لم أزل أشفق مما سيتكشف عنه الإحصاء النهائي من تعداد الضحايا والمصابين بعاهاتٍ مستدامة، كمبتوري الأطراف ناهيك عن الدمار شبه الشامل للمباني والمرافق.

سؤالٌ جوهريٌ يفرض نفسه على الجميع الآن أكثر من أي وقتٍ سابق: من المنتصر ومن الخاسر في هذه الجولة؟ أو لنكن أدق، فالناس في منطقتنا يطرحونه بصيغة: هل انتصرت حماس وخسرت إسرائيل؟

قبل أن يجف حبر الاتفاق اندفع الكثيرون يبدون آراءهم، لكن المدهش (والمضحك ربما في آنٍ معاً) أنهم لم يكونوا إلا معيدين مجترين لآرائهم السابقة نفسها، التي أصروا عليها طيلة الصراع، مع أو ضد.. أرى أن الإجابة على هذا السؤال أصعب مما يبدو للوهلة الأولى، بل هو سؤالٌ «ملغم» والإجابة عليه أعقد مما قد نتصور، إذ لا بد أن نبدأ بالرجوع خطوة للوراء أو التريث وطرح سؤال جوهري أسبق: ما هو، أو كيف نعرّف الانتصار والهزيمة؟ ما يقود إلى سؤالٍ آخر ماذا كان الهدف (أو الأهداف) من العملية العسكرية؟ نحن نعلم أهداف إسرائيل من هجمتها البربرية على القطاع، فهي معلنة وقُتلت بحثاً وتحليلاً، ما يساعدنا على تقييم النتيجة في ضوء هذه الأهداف، وليس الحال كذلك مع حماس. مع اعترافي بالحق المطلق للمقاومة واصطفافي معها، فإنني أرى أن من حقها علينا أن نحلل هذه المحنة التي مرّ بها شعبنا، وما تعرض له من حملة إبادة، من دون أن نسمح للحماس والعواطف بالتأثير على رؤيتنا. من هذا المنطلق فإنني أتفهم السؤال الذي يطرحه رافضو فكرة انتصار حماس، ومظاهر الابتهاج بذلك: أي انتصارٍ ذاك في وجود هذا الكم من الضحايا والدمار؟ وأين النجاح في إثبات الحق في الوجود إذا كان الوجود برمته يتعرض لحملة إبادةٍ وتصفيةٍ عرقية جماعية؟ فهو اعتراضٌ له وجاهته: نحن لا نستطيع أن نتعامى عن الحجم الهائل من الضحايا، ولا أن نسقط من حسابنا كم التشتيت والمعاناة والدمار، الذي تعرض له القطاع وأهله، فإذا كنا سنعرّف الانتصار بمعنى تحرير الأرض وهزيمة إسرائيل التي اضطرت للجلاء، أو إعلان الانسحاب فهذا، للأمانة والدقة والصراحة مع النفس، لم يحدث؛ لكننا إذا عرّفنا الانتصار بفرض الإرادة والحول بين العدو وتحقيق أهدافه فذلك حدث بالفعل. لقد نجحت الحركة في الخروج من هذه المحنة رافعة الرأس متماسكة، على الرغم من خسائرها وضحاياها، وتمكنت وقد صارت ملكةً متوجةً للإخراج والمشهد من إثبات وجودها، حين خرج مقاتلوها إلى السطح لتسليم الأسيرات. في المقابل فإن إسرائيل لم تحقق أياً من أهدافها فلا هي قضت على حماس ولا هي استعادت الأسرى؛ كل ما قامت به هو الانتقام الوحشي الهمجي وقتل تشريد وتدمير القطاع وأهله وإيلامهم أشد الألم، لكن في ما عدا ذلك لم تنجز شيئاً، على الأقل من أهدافها المعلنة.

على صعيدٍ آخر لافت لم نشهد إلا بداياته فلم تكد المعارك تتوقف ويصل الطرفان إلى اتفاقٍ حتى بدأت الاستقالات في صفوف قيادات جيش الاحتلال: إن إسرائيل التي يوحدها في الأساس الشعور بالتهديد والخوف من محيطها والعنف والعدوانية الكامنان في قلبها تتفتت من الداخل، وأزعم أن آثار 7 اكتوبر على مجتمع هذا الكيان سيكون عميقاً ومزعزعاً للغاية في مقبل الأيام. وجدتني في الآونة الأخيرة أتذكر رأي المعتزلة في مرتكب الكبيرة والمنزلة بين المنزلتين، فلا هو مؤمنٌ ولا هو كافرٌ مخلدٌ في النار، مع اختلاف السياق بالطبع. لم تنتصر إسرائيل.. فهي لم تقض على حماس ولم تهجر الفلسطينيين ولم تسترد الأسرى.. ولم تهزم حماس على الرغم من الألم والمعاناة. لقد فرضت إرادتها في العديد من الأمور المهمة، وهو في رأيي نوعٌ من الانتصار، لكن الثمن على المستوى الإنساني كان باهظاً. تُرى، هل كان مخططو 7 اكتوبر يتصورون رد الفعل هذا من إسرائيل؟ وهل دار في خلدهم حجم الدمار وخذلان الدول العربية؟ ولو عرفوا أو عاد بهم الزمن هل كانوا سيقدمون على ذلك أو سيعيدون الكرة؟ طرح أحدهم سؤالٌ له وجاهته: هل نتصور ونتمنى أو نطالب بمعركةٍ أخرى مماثلة في السنين المقبلة؟

أعترف بأنني جالس في دفء بيتي أو مكتبي يثقل قلبي ويخنقني مجرد التفكير في هذا الاحتمال ولا أستطيع، مع رفضي وكرهي لكيان الاحتلال واصطفافي التام مع الحق الفلسطيني في المقاومة واسترداد الأرض، أن أدعو إلى شيءٍ كهذا ولا أتصوره. لكنني لست صاحب القرار، بل الشعب الفلسطيني.. هو وحده الذي يستطيع الإجابة عما إذا كانت النتيجة انتصاراً أم لا. من ناحيتي، ومن منطلق أن هذه ليست إلا معركة، دامية مدمرة، من دون أدنى شك، في حربٍ لم تزل ممتدة فإنني أرى أن الإجابة على السؤال مؤجلةٌ للمستقبل؛ بالتأكيد ليست هزيمة، لكنها وإن لم تكن انتصاراً بيناً ساحقاً ودحراً لإسرائيل كهزيمة ألمانيا في الحرب العالمية الثانية مثلاً (الأمر الذي لم يكن متوقعاً ولا منشوداً في الأساس)، فإن السابع من أكتوبر لم يزل إهانةً عميقة لسمعة وكرامة العسكرية الإسرائيلية، وأن الضرر الذي لحق بالكيان من حرب الإبادة هذه على مستوى الرأي العام العالمي أبلغ وأعمق مما نتصور وهو الأمر الذي أجزم بأننا سنرى نتائجه في السنين المقبلة.

في المقابل فإن صمود حركة حماس والشعب الفلسطيني وصبرهم وتحملهم، وما ستتكشف عنه الأيام المقبلة من حجم ما تكبدوه من معاناة سيستمران في إذهال العالم، وعلى الرغم من التكلفة البشرية فهم أقرب للانتصار في رأيي من إسرائيل. لقد صبت إسرائيل الجحيم على رؤوس الفلسطينيين، وليس ذلك بالأمر الصعب فهي تملك أسبابه.. إلا أنها لم تفرض إرادتها بل فرضت حركة حماس والشعب الفلسطيني إرادتهما ودُفع ثمنُ باهظ. لن تكون هناك إجابة أكيدة على السؤال موضوع المقال فالصورة مركبة وسيستمر كل طرفٍ في التركيز على جانبٍ منها لدعم وجهة نظره وانحيازاته، لكنني أرى أن المستقبل سيرجح كفة طرفٍ على الآخر وإنني أراه بعقلي (لست أشعره فحسب) فلسطينياً.

مقالات ذات صلة