كيف تصبح نجما معارضا…أحمد أبو خليل

بعد تجربة الأعوام الثمانية الأخيرة، يمكن القول إننا أصبحنا من “الشعوب المحتجة”. لقد أنجزنا مرحلة الاحتجاج بالمظاهرات والمسيرات، ثم وصلنا الآن إلى مرحلة الاحتجاج الإلكتروني، مع المزج بين الشكلين عند الحاجة.

اسمحوا لي بملاحظة شخصية، لكنها ضرورية لفهم سبب كتابة هذا المقال: فقد تخصصتُ بعد سنة أولى احتجاج، في مراقبة هوامش الاحتجاجات والمحتجين، ولهذه الغاية، حضرت عشرات المسيرات، شمالاً وجنوباً وفي العاصمة بالطبع.

لاحظت مع مرور الوقت، أنه تشكّل في البلد إلى حد ما، ما يشبه “الطقوس” للتظاهر والاحتجاج، وهناك الكثير من الملاحظات، لكني أقتصر اليوم على ما هو ضروري لهذا المقال.

كانت المسيرات وسط عمان تنتهي عادة كالآتي: كلمة ختامية من صندوق سيارة البك أب، يلقيها خطيب رئيسي، حوله مجموعة من الهتافين الرئيسيين (الذين يحظون بمكانة محترمة داخل الصندوق)، ثم يترجل الجميع مع هتافات أخيرة متلاشية، ثم ينسحب البك اب من الشارع بتسهيلات من المتظاهرين وبترحيب من رجال الأمن… ولكن في العادة تستمر على الأرض مجموعة من الشباب الذين بحكم العمر يحتاجون لزمن أطول كي يهدأ حماسهم، فيواصلون الهتاف الخاص غير المركزي، وبلا مكبرات صوت (لأن الإمساك بمكبر الصوت يعد من صلاحيات المركز)، لهذا فإن الاستجابات تكون أقل وضوحاً، وخاصة مع تعدد مراكزها، ثم يلتف حول هذه المجموعة طوق أمني هادئ طويل البال، ويحتاج الأمر لدقائق إضافية حتى يتفرق الشباب.

ذات يوم، وبينما كانت إحدى المسيرات تنتهي وفق الطقوس الموصوفة أعلاه، اقترب رجل أربعيني بسيط الهيئة نحيل الجسم، من مجموعة الشباب المتحمسين الأخيرة، كنت بجوار هذا الرجل تماماً، كنت أراقب تنامي انفعالاته وارتفاع مستوى توتره وتسارع أنفاسه، ومرة واحدة تقدم ورفع صوته صائحاً: “الشعب يريد إسقاط الحكومة”، فرد عليه الحضور بحماس شديد ووجهوا أنظارهم نحوه، فانتابته لحظة مفاجأة فرحة، لقد صدمته الاستجابة العالية لهتافه، فما كان منه إلا أن رفع قبضتي يديه نحو صدره وأخذ يصيح فرحاً “آآآآآآآآآآآآآه”، ثم انسحب بسرعة إلى الخلف مغادراً! لقد كان في غاية النشوة بعد أن اكتشف أن قيادة الهتاف سهلة، لكنه اكتفى بما أنجزه، وانتهت المسيرة بهذا المشهد، وانقسم الحضور من مستغرب وضاحك.

ربما كانت تلك أسرع عملية صناعة قائد، وللأسف لم أتمكن من التعرف على صاحبها ومتابعة مستقبله السياسي، رغم أني حاولت الاهتمام به ولحقته محاولاً الحصول على حديث خاص معه، ولكنه أهملني، تماماً كما يفعل القادة.

في الواقع، يمكن القول إن بروز صاحبنا هذا كقائد سريع يعد أمراً مفهوماً، فقد رافق المسيرة، وردد هتافات الآخرين، ثم انفعل وتقدم الصفوف وصار نجماً ولو للحظات.

اليوم بعد سنوات أصبحت المسيرات وطقوسها أمراً تقليدياً، لقد دخلنا مرحلة جديدة..

لا يحتاج نجم المعارضة اليوم إلى مسيرات وهتافات وانفعالات متنامية، لقد اختصر “اليوتيوب” الخطوات. فالآن لا حاجة إلى انفعال حقيقي، يكفي أن تجيد “الأداء” أمام كاميرا صغيرة. إن نجم المعارضة اليوم، يصور لك كامل المشهد أمامك، بل ويشركك قبل البدء، ويطلب منك تنبيهه إلى جودة الصوت والصورة، وقد يبدأ بسيجارة وفنجان قهوة، ثم تتطور الأمور أمام نظرك، إلى أن تصل إلى التهديد والبكاء والشتائم والاستعاذات والتمزيق والتكسير… بعضهم يختار الهيئة الكادحة، آخرون باللباس الرسمي، فريق ثالث يفضل خلفية مطبخ أو شرفة أو كنبة فاخرة أو ممزقة حسب المقتضيات، منهم من يبث من داخل سيارة، في العادة يستخدمون اللهجات الشعبية، بعضهم حليق الذقن، وقسم بذقن رثة، قسم يتميز بالهدوء، آخرون اختاروا الغضب منذ البداية، قسم يبث من الخارج، وآخر من الداخل، والمحترفون منهم يستخدمون مصوراً، نظراً لأن التصوير الذاتي يتطلب أن يتقدم المحتج إلى هاتفه لكي يغلقه بنفسه مما يعني المغامرة بلحظة ختام غير سياحية للمشهد، فقد تُظهر هذه اللقطة انفعالات مختلفة عما سبق، وقد يتضخم حضور الأنف والذقن في الشاشة على حساب الجبهة المرفوعة.

مقالات ذات صلة