حلّ الدولتين… بيع للوهم أم حلٌّ ممكن؟

معين الطاهر

حرير- بداية، وعلى عكس المعتاد، تحلّ هنا خاتمة المقال مكان مقدّمته، إذ يعتقد الكاتب أن حلّ الدولتين مات وشبع موتاً، وأصبح مجرّد ديباجة تصلح لصوغ البيانات السياسية والقرارات الدولية، وتُستخدم في الواقع لإدارة الصراع وليس حلّه، ولإظهار اهتمام المجتمع الدولي والنظام العربي بالقضية الفلسطينية اهتمامًا شكليا يعفيهما من مسؤولياتهما الحقيقية، في حين توظّفه السلطة الفلسطينية مبرّرا لبقائها واستمرار زعمها أن هذا الحل يشكّل عماد مشروعها الوطني. كما يظنّ الكاتب أن هذه المرحلة ليست مرحلة طرح حلول، بقدر ما هي مرحلة دفاع عن الحقوق المشروعة للشعب الفلسطيني وتحقيق العدالة له، ومراكمة الإنجازات لتغيير موازين القوى، منطلقاً من حقيقة أن الضحيّة غير ملزمة بتقديم حلول لجلادها الذي عليه أن يعترف بجريمته، ويعتذر عنها، قبل الحديث عن حلٍّ عادلٍ يحفظ حقوق شعبنا وروايته التاريخية، ويشكّل نقيضاً للمشروع الصهيوني في فلسطين.

مدعاة هذا الحديث أن عملية طوفان الأقصى أيقظت العالم من سُباته، وذكّرته مرّة أخرى أن ثمّة قضية فلسطينية تعمّد العالم نسيانها، وسعى إلى طمسها عبر بحثه عن حلولٍ بديلة تعالج قشورها، ولا تتعامل مع جوهرها، واستمرّ في ذلك منذ النكبة. لكن الرئيس الأميركي بايدن والمجتمع الدولي تذكّرا بعد 7 أكتوبر أن هناك حلّاً منسيًا يُدعى “حلّ الدولتين”، فعادا إلى بيع الوهم الذي بدّدته المستوطنات الصهيونية، وحلت مكانه اتفاقات التطبيع مع العرب، بوصفها بديلاً من السلام مع الفلسطينيين، ليجدا من يشتري هذا الوهم مجدّدًا، على الرغم من تجارب الماضي المريرة، لعل ذلك يمنحه الفرصة للمراوحة مكانه والبقاء في سلطته.

تبنّت الحركة الوطنية الفلسطينية شعار الدولة الفلسطينية الديمقراطية التي تتعايش فيها الأديان في فلسطين بوصفه حلّا نهائيّا للقضية الفلسطينية، لكن تحوّلاَ طرأ على هذا البرنامج بعد حرب أكتوبر (1973)، حين تمت الموافقة على برنامج النقاط العشر (1974) الذي تضمّن، للمرّة الأولى، حلّا مرحلياً بإقامة سلطة وطنية فلسطينية وُصفت يومها بالمقاتلة، وقيل إنها ستُقام على أي بقعة أرض محرّرة، وأنها ستكون منطلقاً لتحرير باقي الأرض الفلسطينية، ووصف ذلك بالمشروع الوطني الفلسطيني الذي تغيّر من تحرير كامل التراب الفلسطيني، وتأسيس الدولة الديمقراطية عليه، إلى القبول عمليّا بحلٍّ مرحلي على جزء من الأرض الفلسطينية. كان هدف برنامج النقاط العشر الذي حفل بكثير من الاشتراطات والجمل الثورية منح القيادة الفلسطينية حرية الحركة والمناورة للدخول في متاهات العملية السياسية التي انطلقت بعد حرب أكتوبر، لتدخل الثورة الفلسطينية المعاصرة في مسار متعرّج خاضت فيه نزاعاتٍ مريرة على التمثيل مع أطراف عربية وفلسطينية، وتعرّضت لسياسات الترغيب والترهيب، والعصا والجزرة، وشنّ الحروب ضدها، وتصفية قياداتها البارزة، وصولًا إلى فرض تنازلات مؤلمة، مثل الاعتراف بقرار مجلس الأمن 242، وحقّ إسرائيل في الوجود، وإدانة “الإرهاب”، ووقف المقاومة المسلحة للاحتلال، مقابل مقعد في قطار التسوية، لينتهي هذا المسار باتفاق أوسلو الذي نصّ على حكم ذاتي انتقالي محدود، تؤجل خلاله كل القضايا الرئيسة إلى مفاوضات الحلّ النهائي التي عُقدت في عام 2000، في منتجع كامب ديفيد، ولم تسفر عن أي نتيجة، وما زالت منظمّة التحرير متعلقة بوهم عودة المفاوضات، على الرغم من أن نهرها قد غيّر مجراه مراراً وتكراراً، وجفّت ينابيعُه وروافده.

المرّة الأولى التي استُخدم فيها مصطلح حلّ الدولتين كان في عام 2000، وجاء ذلك على لسان الرئيس الأميركي بيل كلينتون في مفاوضات الحلّ النهائي، ومنذ ذلك الحين بدأ هذا المصطلح في الظهور في الأدبيات السياسية والقرارات الدولية تعبيرًا عن إقامة دولة فلسطينية إلى جانب دولة إسرائيل القائمة فعليًا، ولكن دون تحديد واضح لماهية الدولة الفلسطينية التي تراوحت تعريفاتها ما بين دولة مستقلة على حدود عام 1967 وحكم ذاتي محدود. ومن المهم التنويه إلى أن الحكومة الاسرائيلية لم تستخدم هذا التعبير إطلاقًا، وظلّت ترفض في جميع بياناتها إقامة دولة فلسطينية، ولعل المسؤول الحكومي الوحيد الذي تطرّق إلى هذا الموضوع كان إسحق رابين، وقد تحدّث عن أكثر من حكم ذاتي وأقلّ من دولة، ودفع حياته ثمناً لذلك على يد متطرّف صهيوني. وعملياً، أُقفل هذا الملف بعد هذه الحادثة، وقطّع الاستيطان أوصال الدولة الفلسطينية الموعودة.

يعود الخلل الرئيس في ذلك، أولاً، إلى أن القيادة الفلسطينية قد اندمجت في قطار التسوية، وهي موافقة، من حيث المبدأ، على التنازل عن أكثر من ثلثي فلسطين التاريخية، وأنها تفاوض على ما تبقى، استنادًا إلى ما تسمح به عملية المفاوضات ونتائجها، إذ تغيّرت هنا الشرعية من الحقوق التاريخية للشعب الفلسطيني إلى ما تقرّره المفاوضات التي ستصبح نتائجها، إن تحقّقت، بمنزلة الحقوق المكتسبة لأطرافها. وهذا يخالف جميع المفاوضات التي جرت مع حركات التحرّر في العالم كله في سعيها إلى نيل استقلالها، فلم تدخل الجزائر أو فيتنام المفاوضات مع فرنسا أو الولايات المتحدة لتفاوض على مبدأ الاستقلال، وإنما على تفاصيل الانسحاب وجدوله الزمني.

اعترفت منظمة التحرير، في اتفاق أوسلو، بحقّ إسرائيل في الوجود، ولم تعترف الحكومة الإسرائيلية بأي حقّ للفلسطينيين، واكتفت في الرسائل المتبادلة بين ياسر عرفات وإسحق رابين بالاعتراف بأن المنظمة هي الطرف المفاوض عن الفلسطينيين، وعلى فترة انتقالية مدّتها خمس سنوات، تنتهي بمفاوضات الحلّ النهائي الذي رُحّلت إليه جميع القضايا الرئيسة، وتوقّفت الأمور منذ ربع قرن عند ذلك الحد، في الوقت الذي أنهى الاحتلال بمستوطناته أي إمكانيةٍ عمليةٍ لإقامة دولة فلسطينية يصرح قادته ليلا ونهارًا برفض قيامها. ولاحقًا، شُكّك في أهلية الفلسطيني في المشاركة في المفاوضات، وجاءت خريطة الطريق وخطة دايتون لتأهيل الفلسطيني لذلك، واستُبدل بشعار “الأرض مقابل السلام” شعار “الأمن مقابل السلام” الذي جعل تحقيق أمن الصهاينة وضمان استمراره منوطاً بالسلطة الفلسطينية. وبدلًا من أن يكون تحقيق السلام مع الفلسطينيين مدخلًا للسلام مع النظام العربي، قُلبت هذه المعادلة عبر الاتفاقات الإبراهيمية التي جعلت من التطبيع مع الأنظمة العربية أساس عملية السلام والاستقرار في المنطقة، وتحوّل الموضوع الفلسطيني إلى مسائل تتعلق بتحسين شروط حياة الفلسطينيين وضمان هدوئهم واستكانتهم إلى أن يحين وقت طردهم وتهجيرهم.

حتى لا نشترى الوهم مجدّدًا، ولا ندور في الحلقة السابقة ذاتها، وحتى نستفيد من عودة الاهتمام العالمي بالقضية الفلسطينية، بما فيها حديث المجتمع الغربي عن حل الدولتين، وحتى لا ننقسم على جدوى هذا الحل وإمكانية تحقيقه من عدمها، فالمطلوب الوصول إلى مقاربة أخرى مع المجتمع الدولي تضعه أمام مسؤولياته، وتحدد بشكل نهائي إمكانية تطبيق هذا الحل من عدمه، وتنقل الكرة إلى الملعب الإسرائيلي، وتضع جدولاً زمنيًا لتحقيق هذا الحل، بعيدًا عن طاولة المفاوضات والمؤتمرات الدولية، فالنقاش يجب أن ينصب على تنفيذ الحل وليس ماهيته، ويمكن أن يبدأ الجدول الزمني بوقف بناء المستوطنات كليًا، ومن ثم وضع برنامج زمني لتفكيك المبني منها وإخلائها، وانسحاب قوات الاحتلال من جميع الأراضي الفلسطينية المحتلة.

ما دون ذلك يعني أن المجتمع الدولي غير مهتم بحلّ الصراع، ويرغب بإدارته فحسب، وأن العدو الصهيوني ماضٍ في مشروعه التوسّعي لإقامة نظام أبارتهايد وفصل عنصري في فلسطين كلها، وهو الوضع القائم والمرجّح استمراره، وأن السلطة الفلسطينية تشتري الوهم وثمن بقائها قبل أن يفكّكها العدو ذاته لإقامة كانتونات منفصلة، لكن على الشعب الفلسطيني أن يستمر، على الرغم من ذلك، في مقاومته لدحر الاحتلال من دون قيد أو شرط.

مقالات ذات صلة