خيار لبنان : المقاومة للدفاع عن النفس

عصام نعمان

حرير- يدور جدال طويل (وعقيم) في لبنان حول أيهما أجدى : السعي إلى وقف إطلاق النار أم العمل، وبالتالي المقاومة، لوقف عدوان «إسرائيل» المتصاعد على الأرض والبشر والشجر والحجر والمقاومة والجيش وقوات حفظ السلام الأممية «اليونيفل» وكل مظاهر الحياة في بلاد الأرز؟

مريدو وقف إطلاق النار جلّهم من خصوم حزب الله الناهض مع تنظيمات أخرى لبنانية وفلسطينية بمقاومة ضارية للعدو الصهيوني. مريدو وقف العدوان الصهيوني جلّهم من أعداء «إسرائيل» التي ما فتئت تعتدي على لبنان بشكل أو بآخر مذّ وقّع معها اتفاق الهدنة سنة 1949، وصولاً إلى احتلال نحو نصف مساحته سنة 1982 وإقامة شريط احتلال على امتداد حدوده مع فلسطين المحتلة دام نحو عشرين سنة، ولم تنسحب منه إلاّ بفضل مقاومة شعبية عنيدة.

ها هي «إسرائيل» اليوم تحاول إعادة احتلال لبنان. وها هو حزب الله يقوم اليوم مع حلفائه بالتصدي لها وتكبيدها خسائر بشرية ومادية فادحة، ناهيك عن إصابة منزل رئيس حكومة كيان الاحتلال بنيامين نتنياهو في قيسارية، ما حملها على إطلاق العنان لسلاحها الجوي ليضرب ليل نهار المنازل والمحال المدنية على مدى مساحة لبنان كله من جنوبه إلى شماله والتسبّب بتهجير ما لا يقلّ عن مليون وثلاثمئة ألف مواطن. إذ ينشغل اللبنانيون في جدالهم الطويل والعقيم حول أيهما أجدى وقف إطلاق النار، أم وقف العدوان الإسرائيلي الفاجر، ينبري نتنياهو إلى الردّ على الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون، الذي كان قد دعاه إلى تجنّب التعرض لقوات الأمم المتحدة «اليونيفل» في جنوب لبنان، مشدداً على معارضة «إسرائيل» وقف إطلاق النار من جانب واحد مع حزب الله في لبنان، ومؤكداً على أن القوات الإسرائيلية طلبت من «اليونيفل» المغادرة مرات عدّة، لكنها قوبلت برفض متكرر، مدعياً أن ذلك يوفّر درعاً بشرية لـِ»إرهابيي حزب الله»، وناعتاً ماكرون وغيره من دعاة وقف توريد الأسلحة للكيان الصهيوني في هذه الآونة «بوجوب أن يشعروا بالعار من مثل هذه الدعوة»! ما كان نتنياهو ليتغوّل في مواقفه من وقف إطلاق النار والاعتداء على «اليونيفل»، ومطالبتها بمغادرة جنوب لبنان، والتمادي في ذم ّماكرون ودعوته إياه للشعور بالعار لكونه طالب بوقف توريد الأسلحة إلى «إسرائيل»، لولا وثوقه من دعم الولايات المتحدة له في حربه الإبادية على غزة، واعتدائه الفاجر على لبنان، ورفضه وقف إطلاق النار معه. ألم يصرح الرئيس الأمريكي جو بايدن بأنه يعلم متى ستقوم «إسرائيل» بردّها العسكري على إيران، وأنه «لن يكشف ذلك الآن»؟ ألم يصرح موفده إلى لبنان عاموس هوكشتين لقناة «الجديد» التلفزيونية اللبنانية «بأن القرار الأممي 1701 يحتاج إلى تعديلات وإضافات من أجل ضمان تطبيقه»، رافضاً تقديم أي ضمانات بما يتعلّق بوقف العدو لقصف العاصمة بيروت وضاحيتها الجنوبية؟ ألا تثبت هذه الاعتداءات والمواقف ما بات واضحاً بأن الحراك السياسي الأمريكي يدور ضمن إطار المساعي الهادفة إلى استكمال ما لم ينجح العدو الصهيوني في تحقيقه في المعادلة الداخلية اللبنانية، وهو بلورة صيغة سياسية تهدف إلى ضمان عدم تعافي مقاومة حزب الله وحلفائه، واستعادة قدراتهم وقوة ردعهم في مرحلة ما بعد الحرب؟

في ضوء هذه الواقعات والتطورات، يتضح أن لبنان ليس في وضع يمكّنه من المفاضلة بين وقف إطلاق النار، ووقف العدوان الإسرائيلي المتواصل، بل بات محكوماً بتبني خيار وحيد هو المقاومة الناهضة الآن بواجب الدفاع عن النفس، وضرورة الالتزام تالياً بوجوب توفير كل القدرات والمستلزمات المطلوبة لتأمين النجاح في صدّ العدو وإلحاق الهزيمة به. أكثر من ذلك، بات لزاماً على القوى الوطنية الحيّة في الحكم والمعارضة، أن تعي حقيقة صارخة هي عدم ارتجاء أي دعم محسوس ومجدٍّ من القوى الحاكمة في دول الغرب الأطلسي الأوروبية والأمريكية، ذلك أن التطورات السياسية والاقتصادية في تلك الدول أثرت في قوى اليمين ذات التراث الأيديولوجي اللاسامي، حسب المفكّر الفرنسي المعروف ألان غريش، و»حوّلتها إلى قوى مؤيدة لإسرائيل، إذ أضحى الإسلام بالنسبة اليها هو العدو الرئيس، بعدما نجحت في فرض خطابها ومفاهيمها على الساحة السياسية في البلدان الأوروبية».

إلى ذلك، ثمة حقيقة أخرى يقتضي أن تأخذها في الحسبان قوى المقاومة اللبنانية والفلسطينية هي، أن ما من قوة وازنة تدعمها في العالم سوى إيران، ولئن تمكّنت إيران من أن تواجه الضغوط والعقوبات الأمريكية ضدها منذ انطلاق ثورتها سنة 1979، ونجحت على الصعيدين العسكري (خصوصاً في صناعة الصواريخ الباليستية بعيدة المدى) والتكنولوجي، إلاّ أنها ما زالت تواجه ضغوطاً أمريكية كبيرة وخطراً إسرائيلياً داهماً باستخدام السلاح النووي ضدها. صحيح أن إيران أبدت استعداداً واضحاً لدعم قوى المقاومة اللبنانية والفلسطينية سياسياً وعسكرياً، وكانت قد أوفدت كلاً من وزير خارجيتها عباس عراقجي ورئيس برلمانها محمد باقر قاليباف إلى لبنان وسوريا، ليؤكدا التزام طهران بدعم قوى المقاومة والحكومات العربية التي تناصرها، إلاّ أن التزامها الأول يبقى الدفاع عن نفسها كونها مهدّدة بهجوم إسرائيلي يتردد أنه يستهدف منشآتها النووية. قد تكون طهران قادرة على الوفاء بالالتزامين معاً، لكن التحدّي يبقى كبيراً جداً، لاسيما اذا استطاع نتنياهو أن يجرُ الولايات المتحدة إلى مشاركته في هجومه المرتقب عليها قبل الخامس من تشرين الثاني/نوفمبر المقبل. مهما يكن الأمر، فإن إيران ما كانت لتلتزم دعم المقاومتين اللبنانية والفلسطينية لو لم تكن قادرة على ذلك، ولعلها تدرك أيضاً أن ما تفتقر اليه كِلا المقاومتين، خصوصاً المقاومة اللبنانية، صواريخ للدفاع الجوي تستطيع التصدي لطائرات «إسرائيل» المتطورة من طراز F-35. يتردد أن ايران تملك صواريخ S-300 وأخرى S-400 الروسية التي تستطيع إسقاط طائرات إسرائيل الأمريكية المتطورة، اذا ما كانت تحلّق في سماء إيران، أو على مقربة من أجوائها، لكن يتعذر عليها ذلك إذا كانت تحلّق فوق لبنان أو فلسطين نظراً لبعد المسافة.

كيف يمكن معالجة هذه المعضلة؟

يُقال إن ثمة حلين: الأول صعب والثاني سهل. الحل الصعب هو تزويد المقاومة اللبنانية بصواريخ دفاع جوي فعالة تمتلكها إيران وذلك لصعوبة إيصالها إلى لبنان. الحل السهل هو أن تقوم طهران بتزويد قوى المقاومة العراقية بهذه الصواريخ لتقوم الأخيرة باستخدامها ضد طائرات «إسرائيل» عند قيامها بقصف أهداف مدنية أو عسكرية في لبنان. يبقى أن تكون الصواريخ الإيرانية قادرة على الفعل المجدي من أقرب مسافة بين العراق ولبنان. أما اذا كان طول المسافة يحول دون استخدام قوى المقاومة العراقية صواريخ الدفاع الجوي الإيرانية من العراق، فلا يبقى أمام طهران إلاّ الإعلان بأن «ثأرها» من «إسرائيل» انتقاماً للبنان وفلسطين وإكراماً لشعبيهما سيتجلّى في ردّ ايران الصاعق على هجوم «إسرائيل» المرتقب عليها قبل يوم 5 نوفمبر المقبل أو بعده. الصبر الاستراتيجي مفتاح الفرج اللبناني والفلسطيني.

مقالات ذات صلة