
ورقة من غزة
مختارات محمد عمارة العضايلة
عزيزي مصطفى استلمت رسالتك الان وفيها تخبرني انك اكملت كل ما احتاجه للعيش في سكرامنتو ولكنني غيرت رأيي فلن اتبعك نحو الخضرة والماء والوجه الحسن ..إنني لااستطيع الجريان معا في خط واحد وأعلم أننا نشأنا معا ونفهم بعضنا واحس احساسا غامضا انك غير راض تماما عن هروبك فلا تستطيع أن تعد ثلاثة اسباب وجيهة لهذا الهروب علما انني اعاني نفس الشيء من هذا التمرد والهروب
لقد تعاقدت ياصديقي مع معارف الكويت حيث إنني اعاني من الوحدة والضياع وفي منتصف ذلك العام ضرب اليهود غزة… ضربوا غزتنا بالغاز واللهب
ياصديقي عندمآ اخذت اجازتي في حزيران وجمعت كل ما املك لأجل الانطلاقة إلى الأشياء الحلوة الصغيرة فوجدت غزة كما عرفتها بازقتها الضيقة ذات الرائحة الخاصة رائحة الهزيمة والفقر
ياصديقي حال وصولي ذهبت إلى دارنا إلى أمي وهناك قابلتني زوجة اخي وطلبت مني ان أزور ناديا الجريحة في مستشفى غزة وانت تعرف ناديا ذات الثلاثة عشر عاما فاشتريت لها تفاحا لازورها وذهبت للمستشفى وانت تعرف محبتي لناديا وهي وكل هذا الجيل الذي رضع الهزيمة والتشرد وصلوا إلى الحد الذي يرون ان الحياة السعيدة هي ضرب من الخيال
دخلت ياصديقي الغرفة البيضاء بهدوء لأن الطفل المريض كما تعلم يكتسب شيئا من القداسة فكيف إذا كان جراح الطفل قاسيا مؤلما …وجدت ناديا مستلقية على فراشها وظهرها معتمدا على مسند ابيض انتثر عليه شعرها كفروة ثمينة وفي عينيها الواسعتين صمت عميق ووجهها كان ابيضا ساكنا هادئا
ناديا ..ناديا رفعت عينيها نحوي سمعتها تقول عمي وصلت من الكويت …تكسر صوتها في حنجرتها فربت على كتفها وجلست بجانبها وقلت لها ناديا أحضرت لك هدايا كثيرة من الكويت سانتظرك حتى تخرجين من فراشك سالمة معافاة واسلمك أيها كما اشتريت لك البنطال الأحمر الذي طلبته مني.
اما ناديا فقد ارتعشت كمن أصابه المس او تيار صاعق وطأطأت رأسها بهدؤ رهيب واحسست بدموعها تبلل ظاهر يدي ورفعت بصرها نحوي وهمت ان تتكلم لكنها لفت وشدت على اسنانها وسمعت صوتها مرة أخرى تقول عمي …ومدت يدها فرفعت الغطاء الأبيض واشارت إلى ساقها المبتورة من أعلى الفخذ …ياللله يالله
ياصديقي ابدا لن أنسى ساقها المبتورة من أعلى الفخذ ولن أنسى الحزن الذي هيكل وجهها الحلو
لقد خرجت ياصديقي من المستشفى إلى شوارع غزة وإنا أشد باحتقار على الجنيهين اللذين احضرتهما لاعطيهما إلى ناديا ….كانت غزة يا مصطفى جديدة لم ارها هكذا من قبل فالحجارة المركومة على أول حي الشجاعية كان لها معنى كأنها وضعت لتشرحه فقط
كل شيء في غزة ينتفض حزنا على ساق ناديا المبتورة … حزنا لابقف على حدود البكاء انه التحدي وقالوا لي ان ناديا فقدت ساقها عندما ألقت بنفسها فوق اخوتها الصغار لتحميهم من القنابل واللهب..كان بامكان ناديا ان تنجو بنفسها وتهرب وتنقذ ساقها لكنها لم تفعل …لماذا ! انها الأخوة والفداء والايثار بالنفس.
ياصديقي لن أتي إلى سكرامنتو لن اتي اليك …بل عد انت لتتعلم من ساق ناديا المبتور من أعلى الفخذ
ماهي الحياة وما قيمة الوجود !؟
ورقة من غزة
كتبها المبدع الشهيد غسان كنفاني في الكويت عام ١٩٥٦
بعد سبعين عاما على الورقة مازال التشرد والفقر والقتل والابادة في ارض وسماء غزة
كم طفلا بترت ساقه وهو ينتظر ان يلعب كرة قدم ؟
كم فتاة بترت ساقها او قطعت يدها او تشوه وجهها الحلو وهي تحلم بحياة جميلة ؟ كم وكم ؟!
إنها غزة ارض الشهادة والفداء والكرامة