
بروفة “الليلة الكبيرة”: ما حدث بين إيران وإسرائيل وأمريكا ليس إلا تمهيدًا لما هو قادم
بقلم الكاتب والاذاعي شريف عبد الوهاب
في عالمٍ تتحكم فيه القوى الكبرى بخيوط الصراع، وتُدار فيه الحروب كما تُدار المسرحيات، يبدو أن ما جرى مؤخرًا بين إيران وإسرائيل وأمريكا، وما كاد أن يصيب دول الخليج، ليس إلا “بروفة” – تدريبًا – لحرب أكبر، وأخطر، وربما أشمل. إنها “الليلة الكبيرة” التي لم تُفتح ستائرها بعد، لكن الممثلين يستعدون، والأدوار تُوزَّع، والجماهير تُطعَّم تدريجيًا بحقن الخوف والتوتر والاستسلام لما هو قادم.
من مسرحية إلى بروفة: فهم ما جرى
الضربات الجوية، التهديدات المتبادلة، حشد السفن، وتوجيه الصواريخ، كل هذه كانت عناصر المشهد في ما بدا كحرب وشيكة. إيران تضرب، إسرائيل ترد، أمريكا تلوّح، والخليج يترقّب. لكن الحرب لم تندلع حقًا، بل توقفت عند حد استعراض العضلات.
فهل كانت هذه مجرد مواجهة عابرة؟ أم أنها بروفة محسوبة بدقة؟
الراجح أن ما جرى لم يكن صراعًا انفعاليًا بقدر ما كان تمرينًا استراتيجيًا: اختبارًا للجاهزية، ولردود الفعل، ولحجم الضغط الذي يمكن تحمّله دوليًا وإقليميًا قبل أن تشتعل النار الكبرى.
توزيع الأدوار: من العدو إلى المتفرج
كما في المسرح، كانت الأدوار واضحة:
إيران لعبت دور “الخصم العنيد” الذي لا يخشى الرد، ويملك أدوات إرباك واسعة في البحر والجو وعلى حدود دول الخليج.
إسرائيل ظهرت في ثوب “الضحية المهاجَمة” التي ترد بحزم، لكنها تدرك حدود التصعيد، فلا تريد فتح جبهة شاملة لا يمكن إغلاقها.
الولايات المتحدة أدّت دور “المخرج الخفي”، الذي لا يظهر دائمًا على الخشبة، لكنه يوجه الممثلين، ويتدخل عند الحاجة لحماية التوازن.
الخليج – رغم أن أرضه مهددة – لم يكن جزءًا من الصراع المباشر، لكنه كان “الجمهور المُستهدَف” بالرسائل: أنتم في مرمى النيران، وأن أمنكم ليس بيدكم، بل بيد اللاعبين الكبار.
التطعيم بطعن الحرب
كما تُطعَّم الشعوب بلقاحات تدريجية لتقبل المرض أو مقاومته، تُطعَّم المنطقة اليوم بمشاهد الحرب الخاطفة، والتوتر المتصاعد، والإنذارات المباغتة. الهدف ليس الحرب، بل خلق حالة استعداد نفسي دائم، تهيئة للقبول بما هو أسوأ، وربما تبرير ما هو غير مقبول.
تطبيع الخوف صار سياسة. و”الطعن بالحرب” ليس بالمعنى المادي فحسب، بل النفسي: ترسيخ فكرة أن الحرب حتمية، وأن المصير ليس بيد الشعوب، بل بيد قوى تتصارع فوق رؤوسهم.
الخليج: بين المطرقة والسندان
دول الخليج وجدت نفسها، كعادتها في مثل هذه الصراعات، في موقف بالغ الحساسية: من جهة، علاقات أمنية واستراتيجية مع الغرب والولايات المتحدة. ومن جهة أخرى، قرب جغرافي وثقافي واقتصادي من إيران، التي تستطيع في أي لحظة تحويل الخليج إلى ساحة مواجهة.
بعض الدول الخليجية سعت إلى التهدئة، وأخرى شاركت ببيانات دعم لحلفائها. لكن الحقيقة الأهم أن الخليج ليس بمنأى عن أي تصعيد قادم، وأن التوترات الأخيرة كانت إنذارًا حقيقيًا لما قد تؤول إليه الأمور إذا قرر أحد اللاعبين الكبار أن يفتح الستار على “الليلة الكبيرة”
الليلة الكبيرة: هل اقتربت؟
ما نراه اليوم من إعداد وتحشيد وتضخيم إعلامي، يُشبه ما يسبق الحروب الكبرى في التاريخ: تبدأ بتهديدات، ثم استعراضات، ثم صدام محدود، ثم حدث مفصلي يجعل الانفجار أمرًا لا مفر منه.
لكن الفرق اليوم أن كل طرف يدرك تكلفة الحرب الشاملة، ولذلك تُدار الأمور ببراعة توازن بين التصعيد والتهدئة، كأنهم يؤدون رقصة على حافة الهاوية.
الولايات المتحدة تريد الحفاظ على نفوذها دون الدخول في مستنقع جديد. إيران تريد تثبيت موقعها الإقليمي من دون تجاوز الخط الأحمر الذي يؤدي إلى حرب مفتوحة. إسرائيل تريد كبح التهديدات المحيطة، لكنها تدرك هشاشة جبهتها الداخلية. أما الخليج، فهو لا يملك ترف القرار، بل يعيش دائمًا تحت سقف الخوف من القادم.
الإعلام والجمهور: من المشاهد إلى المشارك
ما يثير القلق حقًا هو الدور الإعلامي الذي لم يكتفِ بنقل الأخبار، بل صار جزءًا من صناعة الخوف. عناوين ملتهبة، تحليلات متشنجة، خرائط للمواقع المستهدفة، ونشرات خاصة كلما ارتفعت حدة التصعيد.
الجمهور لم يعد مشاهدًا، بل صار مشاركًا في الانفعال، والتوتر، بل والتعبئة النفسية للحرب. وهذا هو أخطر ما في “البروفة”: أنها تُهيئ الناس لقبول الحرب باعتبارها قدرًا، لا قرارًا.
البدائل المجهولة: من الفوضى إلى التفكيك
إذا تحولت هذه البروفة إلى حقيقة، فإن الخطر لن يكون في الحرب فقط، بل في ما بعدها: تفكك الأنظمة، انهيار الاقتصاد، تفجر الحساسيات الطائفية، واتساع رقعة الجماعات المسلحة.
المنطقة لا تحتمل “الليلة الكبيرة”، لكنها أيضًا لا تملك أن تمنعها. ولذا، فإن ما يجب أن يُطرح الآن ليس من سيربح الحرب، بل من سيمنعها.
خاتمة: حين يصبح الحذر فرض عين
ما جرى بين إيران وإسرائيل وأمريكا، وما ارتد صداه في الخليج، ليس نهاية الحرب، بل بدايتها. هي بروفة، نعم، لكنها بروفة خطيرة، كاشفة، ومقصودة.
توزيع الأدوار تم، تطعيم الشعوب اكتمل، والضوء الأحمر لا يزال يومض. فهل يكون القادم حربًا فعلية؟ أم مسرحية جديدة؟ أم انهيارًا للصمت؟ لا أحد يعلم.
لكن الأكيد أن الحذر الآن ليس رفاهية، بل فرض عين على دول وشعوب المنطقة. فبين بروفة “الليلة الكبيرة” واندلاعها، لا يفصلنا إلا قرار… قد لا يُتخذ أمام الكاميرات، بل خلف الستار



