ما دواعي هذا التخلّي العربي عن فلسطين؟
أسامة عثمان
حرير- في وقت تسرِّع حكومة الاحتلال الإسرائيلي خطواتها العملية وخطابها تجاه الوجود الفلسطيني في الضفة الغربية وغزّة، نشهد تراجُع النظم العربية الواضح في التزامها نحو الفلسطينيين، وما تبقَّى من فلسطين. ولم ينشأ هذا الموقف العربي الرسمي الخطير من فراغ، وبعضه عائدٌ إلى غياب القناعة بإمكان فرْض الحقوق الثابتة في فلسطين، إذ لا أحد من قادة العرب يزعم، مجرد زعْم، أن تحرير فلسطين من ضمن أهدافه، أو حتى إن استخدام القوة اللازمة لإجبار دولة الاحتلال على الوفاء بما يتفق عليه العالم؛ من دولة فلسطينية في حدود 4 حزيران (1967)، أمر وارد.
ليس هذا فحسب، بل لا أحد يتّخذ الخطوات المفيدة لوقف الإبادة الجماعية المتواصلة، منذ ما يقارب السنة، في قطاع غزّة، أو وقف التمدُّد الاحتلالي الحاد في الضفة الغربية والقدس.
ما أسباب هذا التسليم العربي الرسمي؟ هل هو إدراك، أو قبول أن الوقت قد حان لطيِّ هذه القضية التي لم تنطفئ جذوة عدالتها لدى شعوب العالم، ولم يظهر من أصحابها في فلسطين ما يؤشِّر إلى قبول الاستسلام؟ حتى الإدارة الأميركية، الحالية، من الديمقراطيين، وعلى لسان المرشَّحة للرئاسة، كامالا هاريس، لا تزال تستشعر الحاجة إلى موقفٍ يعترف بأن الطرف الفلسطيني حيٌّ وفاعل، من خلال استبقاء حلِّ الدولتين، وحق الفلسطينيين في تقرير مصيرهم.
صحيحٌ أن ثمّة ما يزاحم هذه الحقوق، وهو ما نجحت إسرائيل في فرْضه على الواقع الفلسطيني، من مستوطنات، ووجودٍ متنامٍ بالقوة، على الأراضي الفلسطينية المحتلة، ثم أصبحت تعامل هذا الأمر الواقع، وتُبرزه، أمام العالم، سبباً شرعياً للبناء عليه، حتى لم يعد الطرف الأهم، وهو الولايات المتحدة، (سواء بإدارة الرئيس السابق دونالد ترامب الجمهورية، أو بإدارة جو بايدن الديمقراطية)، يعارض، فعلياً، هذا المعطى. لكن الموقف العربي الرسمي يتراجع، لأسبابٍ غير هذا السبب، مع أنه سببٌ مهم؛ ذلك أننا لم نعهد، ولا قابلية راهنة، لأن نتوقّع، مناهضة عربية حقيقية للموقف الأميركي، واستعداداً لتحمُّل كُلَف هذه المناهضة، ولو كان الثمن ضياع فلسطين التدريجي، وصولاً إلى الحسم.
أما الأسباب الأخرى فعائدة إلى تردٍّ إضافي أصاب الحالة العربية الرسمية؛ تستبطن تحلُّلها من أيِّ شأن عربي عام، لصالح الانكفاء القُطْري، الخاص، وهذه قناعةٌ تكاد تكون عامة، عند المَحكَّات والتحدّيات المصيرية. بل ضاقت الدائرة من إيلاء الشأن الوطني الخاص الأهمية إلى إيلاء بقاء النظام الحاكم. تعزَّز ذلك بتآكُل الدعم الشعبي للجهات الحاكمة، حين تمثَّل بقاء هذه الأنظمة نقيضاً لإرادة الشعوب التي حاولت تمثيل نفسها، ولم يكن الربيع العربي إلا دليلاً صارخاً على تلك التطلعات، حتى الدول التي لم تستكمَل فيها شروط الثورات، أو الاحتجاجات الواسعة، شهدت احتجاجاتٍ سابقة أو متزامنة، وما اصطفاف دولٍ في الخليج العربي اصطفافاً محموماً ضد قوى التغيير، وقيادتها المعلنة فيما عُرف بالثورات المضادّة، وملاحقتها في بلادها كلَّ من لم يثبت تنصُّله من تلك القوى التغييرية، إلا إشارة إلى هذه التطلعات الكامنة، ومن أمثلة ذلك ما يجري في السودان. وفي هذا النهج ما يرجِّح الإقرار بالخطر، وبقابلية وصول مطالبات التغيير إلى شعوب تلك الدول. فهذا التخلِّي العربي الرسمي عن فلسطين، وطناً وقضية وشعباً يتعرَّض للإبادة والخنق، ليس فقط استجابة لضغوط قوى خارجية، ولا هو فقط بسبب قناعاتٍ انهزامية، ولا هو تعبير عن سُخْطٍ على ممثلي الفلسطينيين، واستياء من أدائهم، سواء أكان هؤلاء الممثلون من حركة المقاومة الإسلامية (حماس) وفصائل المقاومة، أو من الطرف المعترف به دولياً، وعربياً، وهو السلطة الفلسطينية، لجهة فسادها، المالي والإداري، أو لمنظمّة التحرير ومواقفها التي لم تَبْدُ واقعيةً بما يكفي في نظر تلك النظم العربية، مع أن إسرائيل، وفق هذا المنظور، لا حظَّ لها من أي واقعية تساعد على الحلول الوسط.
نعم، فهذا التخلِّي العربي عائدٌ، في جانب منه، إلى الانشغال بما هو أهم في نظر تلك الدول والحكومات، وهو صبُّ الجهود على ضبط الحالة الداخلية، ومواجهة الإخفاق المتراكم، والمزمن، ليس في المجالات الاقتصادية فقط، وهي الأكثر حيوية، وتأثيراً، بل أيضاً في مجمل أسئلة الشرعية، بعد أن قفزت الشعوب العربية في وعيها بوجودها، وبحق مشاركتها، وتمثيلها، ومما يدلّ على هذا التوجس المضطرب الذي يطغى على تصوّرات نظُم عربية، يستأثر بها تثبيت وجودها، يتمثل ذلك بالانهمام الغالب في سحب عناصر الإرادة الشعبية، ومنع تشكُّلها. من ذلك ما يحصل في مصر من إفقار واسع النطاق، يتوازى مع تهاونٍ غير مفهوم، إزاء قضايا الأمن القومي، كما يُظهره تعامل النظام مع سدّ النهضة، من دون المستوى اللازم إزاء تهديد مياه المصريين، وكذلك التعامل المتراخي مع إصرار حكومة نتنياهو على البقاء في محور صلاح الدين (فيلادلفي) في خرق لاتفاقية السلام مع مصر، بما يعني فتح الباب نحو انفراد إسرائيل في تقرير ما تراه مناسباً لها، في مستقبل الأيام، بغضّ النظر عن تداعياته على مصر.
وليس الخطر بعيداً عن الأردن، مع تزايد مخاطر التهجير على فلسطينيي الضفة الغربية، وتسارع الانتهاكات في المسجد الأقصى، ويتعزّز هذا الخوف المشروع لدى تذكّر التيار الفكري الذي يتحدَّر منه نتنياهو، وهو ما يُعرف بالتيار التصحيحي الذي تأسَّس عام 1925 على يد اليهودي الروسي زئيف جابوتنسكي. وهو الذي كان يرى أن الدولة اليهودية يجب أن تمتدّ إلى حدودها التوراتية، وهو صاحب المقولة “لنهرِ الأردن ضفتان، هذه لنا، وتلك أيضاً”. ففكرة تمدُّد الكيان الصهيوني إلى الضفة الشرقية من نهر الأردن أمر لا يمكن الاطمئنان إلى انتفائه من المخطّطات والسياسات اليمينية المتطرّفة المتنامية التي يتزعّمها نتنياهو، المعتدّ بأنه تلميذٌ مخلصٌ لجابوتنسكي، وأنه ملهمه ومرشده الروحي.
وعلى صعيد آخر، يصرف فتحُ أبواب الترفيه البالغ حدود الصدمة والإسفاف على مصاريعها النظر إلى الاهتمام باستحقاقاتٍ تتعلق بحقّ إبداء الرأي والاعتراض. ويخدم هذا النشاط الصارف عن عوالم السياسة التي تصوَّر أنها مُضجِرة، أو ليست من أعمال الشعوب والشباب، يخدم حالة الانقطاع الشعوري عن الشأن السياسي العام.
هذا، والمطالبات لا تصل إلى انخراط هذه النظم الحاكمة في المعركة الدائرة في فلسطين، ولكن في استخدام أوراقٍ دون ذلك، مِن قطع العلاقات الدبلوماسية، أو استخدام ورقة المقاطعة الاقتصادية، أو حتى إبداء اهتمام حارّ وحقيقي في نبرة الخطاب، وفي تبنِّي الصراع، بوصف مخرجاته مهدّداً جوهرياً للأمن العربي القومي، بمجمله. وللأسف، ما حصل هو ضرب الحكام بشعوبها، وعوض أن تعانق الطبقة الحاكمة تطلعات الشعوب العربية غير المنبتّة مع تطلعات الفلسطينيين، فإنها أضحت أكثر انهماكاً في معالجاتٍ سلبيةٍ تقتصر على تجويف أسباب القوة الشعبية، تماشياً مع إدراك متعسِّف بأن لحظة إنهاء المسألة الفلسطينية قربت، أو أن لا جدوى من الاحتشاد لها.