ليس بكثرة الأحزاب..!

علاء الدين أبو زينة

حرير- كان من الملفت في الانتخابات الأردنية الأخيرة العدد الكبير للأحزاب المشاركة، الذي بلغ 36 حزبا. ويطرح هذا التعدد الكبير في الأحزاب تساؤلات حول مدى فاعليته في تحقيق التمثيل الشعبي الأمثل من ناحية، ومدى قدرته على تعزيز ديمقراطية حقيقية من ناحية أخرى.

إن وجود 36 حزبا في الساحة الانتخابية لا يعكس بالضرورة تنوعا فكريا أو سياسيا صحيا. ليس من المعقول أن يكون هناك 36 أطروحة سياسية وأيديولوجية مختلفة متماسكة ليختار الناخب من بينها. والأرجح أن يؤدي هذا التعدد المفرط إلى تشتيت الانتباه والأصوات. وفي حين أن التعددية الحزبية قد تكون علامة على الديمقراطية، فإن الفوضى الحزبية قد تقود إلى فقدان الناخبين الاتجاه والتركيز. عندما يجد الناخب نفسه أمام هذا العدد الكبير من الأحزاب، قد يشعر بفقدان البوصلة وغياب المعايير لاختيار الحزب أو المرشح الذي يمثل رؤيته وقضاياه بشكل أفضل، وسينتهي به المطاف بالتصويت وفقا للعلاقات الشخصية أو القبلية بدلا من الاتكاء على رؤية سياسية واضحة.

من المؤكد أن الدول التي تتلمس الطريق نحو التجارب السياسية المفتوحة ستبدأ بالتجريب، وسيحتاج التقدم إلى مراكمة الخبرة ونبذ الأخطاء وإرساء ممارسات تستلهم التقاليد الانتخابية الراسخة في «الديمقراطيات»، وتستفيد قدر الإمكان من الأطر العامة كدليل.

في البلدان التي تعتبر نفسها رائدات الديمقراطية ومناراتها، تنقسم الأحزاب عادة إلى ثلاث فئات رئيسية لا غير، بناء على توجهاتها الأيديولوجية والسياسية: الأحزاب اليمينية؛ الأحزاب اليسارية؛ وأحزاب الوسط. وتعكس كل فئة منها رؤية مختلفة حقا للمجتمع والسياسة والاقتصاد، وتتخذ مواقف متميزة بشأن القضايا الرئيسية، مثل الرعاية الاجتماعية، والاقتصاد، والحريات الفردية، والدور الحكومي. وبشكل عام، تتيز هذه الفئات بما يلي:

تتمحور الأحزاب اليمينية حول سياسات محافظة، تتبنى القيم التقليدية في المجالات الاجتماعية والثقافية، وتفضل السوق الحرة والتقليل من دور الدولة في الاقتصاد. وغالبا ما تدافع عن السياسات التي تدعم الأعمال التجارية، وتعارض الضرائب المرتفعة والتدخل الحكومي الكبير. ومن الواضح أن ما يمكن اعتبارها أحزابًا يمينية لدينا تركز فقط على جانب التقاليد، إما دينيًا أو سياسيا ولا تُعنى كثيرا بالمسائل العملية كالاقتصاد.

ومن الأمثلة المعروفة على هذه الأحزاب في الغرب، «حزب المحافظين» البريطاني. وهو حزب تقليدي يميني يدعم السوق الحرة، وتقليل دور الدولة، وسياسات اقتصادية ليبرالية، ويقف ضد زيادة الضرائب ويعزز القيم المحافظة. وهناك «الحزب الجمهوري» في الولايات المتحدة، الذي يؤيد السياسات الاقتصادية الليبرالية، وخفض الضرائب، ويدافع عن الحريات الفردية ضد التدخل الحكومي. كما يتبنى العديد من القيم المحافظة، مثل دعم القوانين التقليدية للأسرة ورفض الإجهاض. وفي فرنسا، لديهم «حزب التجمع الوطني»، وهو حزب يميني قومي يدعو إلى تعزيز الهويات الوطنية الأوروبية، والحد من الهجرة، والخروج من السياسات الأوروبية الجماعية.

أما الأحزاب اليسارية، فتعتنق رؤى تقدمية تدعو إلى دور أكبر للحكومة في تنظيم الاقتصاد وتقديم الخدمات الاجتماعية مثل الرعاية الصحية والتعليم. وتميل هذه الأحزاب إلى دعم السياسات التي تعزز المساواة الاجتماعية والعدالة الاقتصادية، وتركز على حقوق العمال والفئات المهمشة. ولم تكن اتجاهات اليسار مرغوبة في السياقات العربية، ورُبطت تقليديًا بالانفتاح الفكري والسلوكي كنقيض للتقاليد والعقيدة لتسويغ استهدافها وتحييد غاياتها التغييرية التقدمية في السياسة والاقتصاد والمجتمع.

من أبرز الأحزاب التي تمثل اليسار في الغرب «حزب العمال» البريطاني. وهو حزب يدعو إلى توسيع الرعاية الاجتماعية، وزيادة الإنفاق الحكومي على الخدمات العامة مثل الصحة والتعليم، ورفع الضرائب على الأثرياء لتحقيق توزيع أكثر عدالة للثروة. وهناك «الحزب الديمقراطي» في الولايات المتحدة، الذي يتبنى سياسات تقدمية تشمل دعم الرعاية الصحية للجميع، وتعزيز حقوق الأقليات، وزيادة الإنفاق الحكومي على التعليم والبنية التحتية، وتحقيق العدالة الاجتماعية. ويتبنى «حزب اليسار» في ألمانيا سياسات معارضة للرأسمالية، ويدعو إلى تعزيز الحقوق الاجتماعية، وتقليل الفجوة بين الأغنياء والفقراء، وتوسيع نطاق الرعاية الاجتماعية.

أما أحزاب الوسط فتسعى إلى تحقيق توازن بين السياسات اليمينية واليسارية. وتعكس هذه الأحزاب مواقف مرنة تتراوح بين دعم السوق الحرة وتأييد بعض البرامج الاجتماعية. وغالبا ما تحاول تقديم حلول وسط للقضايا الاقتصادية والاجتماعية وتعمل على توجيه البلد نحو مسار مستقر من دون التوجه نحو التطرف.

ومن الأمثلة على أحزاب الوسط «حزب الديمقراطيين الأحرار» في بريطانيا، الذي يدعو إلى سياسات ليبرالية اجتماعيا، مثل حقوق الإنسان والعدالة الاجتماعية، مع دعم الاقتصاد الحر ببعض التدخلات الحكومية لضمان المساواة. وهناك حركة «إلى الأمام في فرنسا»، الحزب الوسطي الذي أسسه الرئيس إيمانويل ماكرون، والذي يجمع بين سياسات السوق الحرة ودعوات للإصلاح الاجتماعي، حيث يوازن بين سياسات اليمين واليسار. وهناك «الحزب الديمقراطي المسيحي» في ألمانيا الذي يميل إلى اليمين، ويجمع بين التوجهات المحافظة في المجالات الاجتماعية والاقتصادية، ويدعم السوق الحرة مع تعزيز القيم المسيحية.

هذه التركيبة الحزبية البسيطة نسبياً توفر للناخب خيارات واضحة ومدروسة. والناخب في هذه الدول لا يواجه سيلا من الأحزاب المتشابهة في الأيديولوجيا والرؤية، بل يختار بين برامج متباينة وواضحة تعكس اختلافات حقيقية في السياسات والتوجهات. وتجعل هذه البنية الحزبية العملية الديمقراطية منظمة بطريقة تسهل على الناخب التمييز بين الخيارات المتاحة، وتمنع تشتت الأصوات في أحزاب صغيرة وغير فعالة.

يصعب التمييز في فوضى الأحزاب الأردنية بين يمين ويسار ووسط. وفي كثير من الأحيان ليس ثمة «أيديولوجيا ورؤية» أو أنهما مكرران إذا وُجدا من الأساس. ويبدو الأمر كما لو أن كل عائلة أو مجموعة أصدقاء يجدون إغراء في تأسيس حزبهم الخاص وهذا كل شيء. ولا يشعر المواطن الذي لا تربطه علاقات شخصية أو عائلية بالحزب أو مرشحيه بأي مصلحة عملية في المشاركة. وفي المقابل، يشكل الاختيار في الديمقراطيات الراسخة، عندما تكون للأحزاب أجندات وبرامج واضحة تشمل كل مجالات الحياة، قرارا يؤثر على الوضع الشخصي لكل مواطن حقا بحيث تكون مشاركته في الانتخاب مسؤولية يفرض عليه النكوص عنها تداعيات محسوسة في حياته اليومية.

لا ينبغي أن تعتمد الانتخابات على شبكة العلاقات الشخصية والقبلية بحيث تكون العامل الذي يلعب الدور الرئيسي في الانتخابات، وأن يكون «البريستيج» والامتيازات دافع المرشحين. وإلى أن تتحدد الخيارات الأيديولوجية والعملية بوضوح في خريطة الأحزاب التي ينبغي أن تكون كبيرة وصغيرة، ستبقى العملية في الأردن تراوح في منطقة التجريب.

مقالات ذات صلة