في تغيّر الموقف التركي حيال الحرب

عمر كوش

حرير- عرف الموقف التركي حالة من الارتباك، وعدم الوضوح منذ البداية، حيال عملية طوفان الأقصى التي قامت بها حركة حماس ضد إسرائيل في السابع من الشهر الماضي (أكتوبر/ تشرين الأول)، وما تلاها من حربٍ إسرائيلية على الفلسطينيين في قطاع غزّة، الأمر الذي جعله عرضة للانتقاد من بعض الجهات السياسية، داخل تركيا وخارجها. وتجسّدت تلك الحالة من خلال مؤشّرات عديدة، لا تنحصر في مسارعة الرئيس، رجب طيب أردوغان، إلى الاتصال بالرئيسين الفلسطيني محمود عبّاس والإسرائيلي إسحق هيرتزوغ، بل تطاول “الموقف المتوازن” الذي استخدم لهجة محايدة، لم توجّه أصابع الاتهام إلى إسرائيل أو “حماس”، بل شدّدت على إدانةٍ شديدة للخسائر في أرواح المدنيين، مع “البقاء على اتصالٍ مع جميع الأطراف المعنية للمساعدة في إنهاء النزاع”، وهي لهجةٌ تعبّر عن موقف غير متوقّع من أنقرة حيال ما تقوم به إسرائيل في قطاع غزّة بعد عملية “حماس”، ولا يغيّر من طبيعته تركيز الساسة الأتراك في خطابهم السياسي على عدم قبول تدمير قطاع غزّة بالهجمات الجوية والبرّية الإسرائيلية، ورفض استهداف المدنيين من الجانبين، مع تأكيدهم استعداد أنقرة للاضطلاع بمهمّة تأمين مساعدات إنسانية لأهالي غزّة، فضلاً عن استعدادها للقيام بأي نوع من الوساطة بين الطرفين، بما في ذلك تبادل الأسرى، وأن تكون ضامناً للطرف الفلسطيني، وكذلك ما تردّد من تقارير عن طلب تركيا من قادة في حركة حماس مغادرة إسطنبول بعد اندلاع الحرب، الأمر الذي دفع أنقرة إلى نفيها.

إذاً، اختلف الموقف التركي هذه المرّة عمّا سبقه من مواقف حيال أزمات مشابهة، إذ عودتنا مواقف الرئيس أردوغان في أزمات وحروب سابقة، أن تقف تركيا، من دون تردّد، مع الطرف الفلسطيني ضد الطرف الإسرائيلي، وبما يجعلها أحد الأطراف فيها، ولم تلجأ إلى اتخاذ “موقف متوازن”، ولا دور الوسيط أو الضامن للطرف الفلسطيني. ففي حرب إسرائيل على قطاع غزّة عام 2014، لم يكتفِ أردوغان حينها بإدانتها فقط، بل اعتبر جرائم إسرائيل فاقت جرائم هتلر، حين قال إن “الإسرائيليين يلعنون هتلر ويشتمونه ليل نهار بسبب الهولوكوست، لكننا نجد أن دولة إسرائيل الإرهابية قد تجاوزت فظائع هتلر من خلال عملياتها بغزة”. وذهب إلى حدّ اتهام الرئيس المصري، عبد الفتاح السيسي، بـ”مساعدة إسرائيل في حربها على قطاع غزة”. وفي 2018 وصف أردوغان رئيس الوزراء الإسرائيلي، بنيامين نتنياهو، بالإرهابي، وسحبت تركيا سفيرها من تل أبيب، وطردت السفير الإسرائيلي من أنقرة، وكذلك القنصل العام من إسطنبول. أما في الأول من سبتمبر/ أيلول 2011، فقد طردت أنقرة السفير لديها، وعلّقت كل الاتفاقيات العسكرية، وذلك بعد رفض إسرائيل الاعتذار عن مقتل عشرة ناشطين أتراك، نتيجة مهاجمتها سفينة مافي مرمرة في نهاية شهر مايو/ أيار 2010، التي كانت في طريقها إلى قطاع غزّه، ضمن ما عُرف باسم “أسطول الحرية” الذي كان يسعى ناشطوه للقيام بخطوة رمزية، من أجل كسر الحصار المفروض من إسرائيل على جميع الفلسطينيين داخل القطاع.

يرجع الموقف المتوازن الذي لجأت إليه أنقرة إلى عملية التطبيع التي أطلقتها، أخيراً، مع دول الخليج والإقليم، بما فيها إسرائيل، وأفضت إلى تحسّن علاقات أنقرة بتل أبيب، جسّدته زيارة الرئيس الإسرائيلي إسحق هرتسوغ لتركيا في التاسع من مارس/ آذار من العام الماضي، وهو ما لم يحدث منذ 15 عاماً، وأعقبها لقاء الرئيس أردوغان بالرئيس نتنياهو، للمرة الأولى منذ سنوات طويلة، في نيويورك في 20 سبتمبر/ أيلول الماضي، على هامش اجتماعات الجمعية العامة للأمم المتحدة.

غير أن فظاعة ما تقوم به إسرائيل حيال أهالي قطاع غزّة غيرت كل الحسابات، حيث بدأ الموقف التركي بالتغير شيئاً شيئاً على وقع الضغط الشعبي، وتواتر المظاهرات في مختلف المدن التركية، المطالبة بقطع العلاقات مع إسرائيل، إلى جانب مطالبة حليف أردوغان، زعيم حزب الحركة القومية، دولت بهجلي، الدولة التركية “بالتدخّل والقيام بكل ما هو ضروري من منطلق مسؤولياتها التاريخية والإنسانية والدينية”. إضافة إلى تمادي إسرائيل في حرب الإبادة الجماعية ضد الفلسطينيين في القطاع. دفع ذلك كله الرئيس أردوغان إلى اتخاذ مواقف أكثر وضوحاً مما تقوم به إسرائيل، حيث أعلن إلغاء زيارته المقرّرة لإسرائيل، وبعده ألغى وزير الطاقة التركي زيارة مقرّرة لإسرائيل، إلى جانب تعليق تركيا خطط التعاون مع إسرائيل في مجال الطاقة، ثم رفض أردوغان اعتبار حركة حماس منظمة إرهابية، بل اعتبرها حركة تحرّر، ودعا إسرائيل إلى وقف هجماتها على قطاع غزّة، التي ترقى إلى حد التطهير العرقي والإبادة الجماعية، بحسب وصفه، على إثر قصف إسرائيل المستشفى المعمداني في قطاع غزّة وسقوط قرابة 500 مدني فلسطيني، واعتبره “ردّاً غير متناسب ويصل إلى حد المذبحة”.

زاد الخطاب التركي الرافض للحرب الإسرائيلية نبرته، ووصل إلى ذروته حين طالب أردوغان بأن تخرُج إسرائيل من حالة الجنون، ثم أكّد أمام تجمّع حاشد للأتراك في إسطنبول في 28 أكتوبر، أن بلاده تستعد لإعلان إسرائيل مجرمة حرب أمام العالم، وترتكب جرائم فظيعة في غزّة، وذهب إلى تحميل الولايات المتحدة وأوروبا مسؤولية الحرب الإسرائيلية على قطاع غزّة.

غير أن تغيّر الموقف التركي حيال الحرب الإسرائيلية لا يعني أن أنقرة ستذهب بعيداً فيه، بل إلى تبنّي أردوغان والدائرة المحيطة له نهجاً أكثر منطقية، حسب وصف معلقين أتراك، يرون أن هذا النهج يفضي إلى نتائج أكثر إيجابية لصالح تركيا، وهو يستدعي الجلوس إلى الطاولة بدلاً من الصراخ، خصوصاً أنّ تركيا تواجه تحدّيات وأزمات اقتصادية، ويمكن أن تتعرّض لضربات اقتصادية ونقدية إذا جنحت أكثر في تموضعها الجديد من الحرب الإسرائيلية على غزّة.

مقالات ذات صلة