
للتفسير لا للتبرير
حسني عايش
حرير- في كتابات المعلقين في الغرب على الأحداث في غزة والضفة وفلسطين، وبخاصة في أميركا، وبصورة أخص في معهد الشرق الأوسط للشرق الأدنى الصهيوني الإسرائيلي المعروف يتجنبون الإشارة، ولو من طرف خفيّ إلى أصل أو جذر الصراع الفلسطيني الإسرائيلي التاريخي. يبدأون من الواقع ويمضون، وكأنّ الشعب الفلسطيني “يضايق” إسرائيل ويريد أن يلقي اليهود في البحر. إنهم يعتبرون إسرائيل قائمة وصاحبة الحق في المكان والزمان، وأن الشعب الفلسطيني هو المعتدي الدائم عليها، فلا يشعرون بالخزي والعار مما تقوم به من قتل وتدمير لشعب بريء اغتصبت إسرائيل وطنه وشردته في الآفاق.
يقصرون حديثهم الآن عن الضفة وقطاع غزة ويقارنون بين القتلى والجرحى من الطرفين قبل السابع من أكتوبر وبعده، ويشيرون إلى عدم استجابة الضفة إلى دعوات حماس والجهاد بالثورة على إسرائيل دعماً لهما ضدها.
ولإزالة الالتباس بين الضفة وغزة أدعو القارئ إلى الانتباه إلى الفرق الحاسم بين وضع غزة ووضع الضفة من إسرائيل. إن غزة محاصرة من جميع الجهات براً وبحراً وجواً، ولكنها حرة داخلياً، وتحكم نفسها بنفسها، وتستطيع بالذكاء والمثابرة والحيلة تهريب ما تحتاج إليه من سلاح وذخائر ومواد لازمة لها من خلال ثغرات برية وبحرية وتضع ما يلزم تحت الأرض.
أما الضفة الغربية فمحاصرة من جميع الجهات من الخارج، ومحاصرة في كل الأوقات من الداخل بشرطة العدو وقواته المسلحة وحواجزه الثابتة والطيارة وطائرات المراقبة ومخابرات الشاباك والشين في جميع الجهات وفي جميع الأوقات بين مدنه وقراه وحولهما فلا يستطيع أحد تهريب سلاح أو صنعه أو شق نفق لبضعة أمتار لمواجهة إسرائيل مثل غزة.
يقيم المستوطنون في أحشاء الضفة، وما أسرع وأسهل الفتك بكل من يتحرش بهم من الشباب الشجعان الأبطال المتحمسين للحرية والتحرير الذين يحاولون. إنهم أي المستوطنين وقوات إسرائيل سرعان ما يتوجهون نحوهم بكامل أسلحتهم وحتى بالطائرات لمحاصراتهم وقتلهم وهدم بيوتهم، ولا يغادرون دون ذلك. وبما أن الناس بالضفة بحاجة ماسة إلى استمرارية الحياة فإن إسرائيل تبتز عدداً غير قليل منهم ليعملوا جواسيس وعملاء لها. وقد تجلى أثر هؤلاء ليس في الضفة فقط بل في غزة قبل الحصار عندما كانت إسرائيل تصفي قادة حماس والجهاد أولاً بأول وفي الزمان والمكان المحددين. ولكن دابر هؤلاء انقطع بعد تصفية حماس لكثير منهم.
في سنة واحدة (1945) من احتلال ألمانيا لفرنسا في الحرب العالمية الثانية تبين أن خمسة في المائة من الفرنسين تحولوا إلى جواسيس وعملاء لألمانيا، أي بمقدار خمسين ألفاً في المليون وفي سنة واحدة، وها هو يمضي على سيطرة إسرائيل على الضفة والقطاع أكثر من نصف قرن، ولمّا تتحقق مثل هذه النسبة فيهما.
إذاً ما العمل في الضفة؟ أيستمر الشباب المنضمون في قوى المقاومة هناك بالتصدي لإسرائيل غير المتكافئ الذين تحاصرهم إسرائيل في بيت أو في غرفة أو زقاق ينتهي بالقضاء عليهم في كل مرة وتدمير المنطقة أو المخيم أو الحارة والبيوت، وإقامة مراكز أو مستوطنات جديدة فيها تحدياً لهم، أم أنهم يجب عليهم أن يلوذوا بالصمت ويتركوا إسرائيل تتصرف كما تريد؟
إن الحقيقة مرّة كالعلقم فلا مثيل لوضع فلسطين والشعب الفلسطيني في التاريخ في صراعه ضد إسرائيل، فلا يزاودنّ أحد عليه بمطالبته بما لا يستطيع هو القيام به لو كان في وضع مثل وضعه.
في ضوء ما مر يمكن الادعاء أن المقاومة المسلحة في الضفة غير ممكنة كما هي في غزة أو من غزة، أو على الأصح غير مواتية وبخاصة في المخيمات حيث تستغلها إسرائيل وكأنها تطلبها لتصفيتها لأنها لا تريد أن تظل الشاهد العيني الأكبر على النكبة والكارثة.
لعله كان الأفضل لمعركة غزة ألا تطالب الضفة بالمقاومة المسلحة لإسرائيل فيها، لأنها غير ممكنة مادياً وغير مواتية مكانياً كما ذكرت. وكان أفضل الأفضل مطالبتها بمقاومة سلمية شاملة ومستدامة يستطيع الجميع القيام بها وبحيث يخرج الناس عن بكرة أبيهم وحتى مع دوابهم ومواشيهم لإغلاق الطرق وقطع أوصال السلطات والمستوطنات، بالاستلقاء عليها، وكما كان يفعل الهنود بقيادة غاندي، وبحيث لا يبرحون وإن داستهم دبابات العدو أو قصفتهم الطائرات، إلى أن يتحقق المطلوب كلما وعندما يلزم ذلك. فتأثيره على إسرائيل عالمياً لا يقل عن تأثير إصابتها بالصواريخ إن لم يكن أكبر، وبخاصة إذا قتلت واحداً.
والحقيقة المرة الثانية أنه لو حلّت حماس أو الجهاد بالانتخاب محل السلطة وعباس في الضفة ، لما استطاعتا أن تفعلا غير ما تفعله سلطة الحكم الذاتي.
أقول أقوالي هذه ليس دفاعاً عن السلطة أو عن عباس وإنما للتفسير لا للتبرير.
لقد جاءت أوسلو نتيجة لطرد عرفات ومنظمة التحرير من لبنان بعد حرب سنة 1982، فحينها لم تقبل عاصمة عربية واحدة استقبال وإقامة عرفات ومن معه فيها ما عدا تونس التي أمهلته عشر سنوات. ولما كادت تنتهي ولا دولة في العالم قبلت أن تؤويه، دخل في مفاوضات سرية مع إسرائيل ليكون له موطئ قدم في فلسطين، “وبعدين بفرجها الله” هكذا أظن أنه كان يفكر. كان يعتقد أنه سيقلب الطاولة على إسرائيل بالفهلوة إذا عاد إلى فلسطين فقبل مبدئياً شروطها الثقيلة المعروفة، ومنها تقسيم الضفة إلى مناطق (أ:A) ومساحتها 3 % من الضفة، و(ب:B) ومساحتها 25 % منها، و(ج:C) ومساحتها 72 % منها، وتأجيل البحث في القضايا الشائكة إلى مواعيد محددة فيما بعد. كانت حماس– رضي الله عنها– تقوم بالتفجير في كل مرة سيتم فيها الانتقال إلى المرحلة التالية فتعطلها. وهكذا تحول الصراع في حينه من بين فلسطين وإسرائيل، إلى الصراع بين فلسطين وفلسطين، وأخيراً انتهى الأمر بانقلاب الطاولة الإسرائيلية عليه: على عرفات، وبالقيامة فيما بعد على إسرائيل بطوفان الأقصى.



