
شبكة العنكبوت: تصعيد نوعي يعيد خلط أوراق الحرب الأوكرانية
شاهر جاسم
حرير- لم تكن ضربة «شبكة العنكبوت» عملية عسكرية عابرة، بل شكلت تطورا خطيرا أعاد رسم ملامح الحرب الروسية الأوكرانية المستمرة منذ أكثر من عامين. وقد كشف الهجوم بطائرات مسيرة استهدفت قواعد جوية روسية، عن ضعف في قدرة الأجهزة الأمنية الروسية. وأرسل الهجوم رسالتين واضحتين، واحدة إلى حلفاء كييف، خصوصا واشنطن، أنها تملك أوراق قوة، وتعلن فيها صراحة بأنها قادرة على مواصلة القتال وإخراج روسيا من هذه الحرب بجناحين مكسورين. ورسالة أخرى إلى موسكو بأنها قادرة على الوصول إلى أي نقطة على الأراضي الروسية وضربها، وأنه لم يعد هناك أي شعور بالأمان، أو حصانة لأحد ما دامت الحرب مشتعلة. كما بات الرئيس الروسي فلاديمير بوتين أمام خيارات ليست سهلة، فإما أن يصعد الحرب ويوسع رقعتها، وإما يتجه نحو تسوية تفاوضية قد ينظر إليها كعلامة ضعف على المستوى الداخلي.
داخل الكرملين، تتصاعد النقاشات بين أوساط النخبة القومية حول ضرورة توجيه رد مزلزل على العملية الأوكرانية الأخيرة، وسط تصاعد القلق من تعقد المشهد، وتنامي المخاوف من تدخل دولي مباشر في الصراع. وبعد أن كان التعويل على حسم عسكري سريع مع بداية الحرب، تجد القيادة الروسية نفسها اليوم أمام مسارات ضيقة وثمنها باهظ. وحسب الخبراء، من المتوقع أن يتخذ التصعيد أشكالا متعددة: هجوما أكثر ضراوة وواسع النطاق على البنية التحتية الأوكرانية، أو حتى استهداف مواقع في الدول المجاورة التي تدعم كييف، خاصة إذا قررت موسكو الرد على الدعم الغربي، الذي تعتبره عاملا مباشرا في نجاح العملية. كما طرح خيار أكثر تطرفا، بشن ضربة انتقامية ضد القيادة الأوكرانية نفسها وهجمات إلكترونية واسعة النطاق على دول الناتو، وهذا سيناريو خطير قد يفتح الباب أمام مزيد من الفوضى في ظل حرب مفتوحة.
الجدير بالذكر، تحدث نائب رئيس مجلس الأمن الروسي ديمتري ميدفيديف مؤخرا، أن المفاوضات التي تستضيفها مدينة إسطنبول التركية، «ضرورية لتحقيق نصر سريع لروسيا، وليس من أجل التوصل إلى سلام بحلول وسط وشروط غير واقعية». وأكد ميدفيديف: «أن كل من يشعر بالقلق ويتطلع إلى الانتقام، القلق شعور طبيعي، والانتقام حتمي لا مفر منه». وأضاف: «علينا ألا ننسى أمرين، أولهما أن جيشنا يهاجم بنشاط وسيواصل تقدمه، كل ما يجب أن ينفجر سيتم تفجيره لا محالة، وكل ما من يجب إبادته سيزول من الوجود». رغم تصاعد النزاع، لم يغلق الطرفان الروسي والأوكراني باب المفاوضات بالكامل، لكن كلاهما يسعى للدخول إلى طاولة الحوار وفق شروطه ورؤيته الخاصة. ففي حين تطالب كييف بتبادل شامل للأسرى ووقف غير مشروط لإطلاق النار، تصر أيضا على استعادة الأطفال الأوكرانيين الذين تتهم موسكو باقتيادهم قسرا إلى داخل روسيا. كما تحاول الحكومة الأوكرانية استثمار الزخم الناتج عن عملية «شبكة العنكبوت» مؤخرا، لتعزيز موقعها التفاوضي في هذه المرحلة الحساسة.
بالنسبة للجانب الروسي، يسعى إلى دخول المحادثات من موقع القوة، مع الحرص على التأكيد بأن عمليته العسكرية لا تزال ماضية نحو تحقيق أهدافها المعلنة منذ اليوم الأول. فالتراجع، في نظر مؤيدي الحرب داخل روسيا، لن يفسر إلا كاستسلام تحت شعار السلام، وهو ما يشكل ضغطا كبيرا على بوتين تحديدا. وتزداد التعقيدات بسبب موقف موسكو الرسمي من شرعية الرئيس الأوكراني فولوديمير زيلينسكي، إذ أعلنت منذ مايو/أيار الماضي أنها لم تعد تعترف به رئيسا شرعيا، ما يضفي غموضا قانونيا وسياسيا على أي مفاوضات مباشرة. ومع ذلك، لم تغلق روسيا الباب تماما، بل تبقي على المفاوضات كأداة للمناورة الدبلوماسية، تحسبا لتغيرات محتملة في ميزان القوى أو الضغوط الدولية. بين ساحات القتال وقاعات التفاوض، يبدو أن كل طرف يراهن على إنهاك الآخر أو كسره. في كييف، تزداد المخاوف من احتمال تراجع الدعم الأمريكي قبل التوصل إلى حل مرضٍ لها، ما قد ينعكس بخسائر كبيرة على الأرض، إضافة إلى الكلفة البشرية والمادية الباهظة. أما في موسكو، فالدخول في مفاوضات، من دون تحقيق مكاسب ملموسة يحمل ثمنا داخليا لا يستهان به. فاستمرار العمليات العسكرية يعني استمرار العقوبات الغربية ومع تراجع الثقة بالأجهزة الأمنية، أصبح الوضع لا يهدد الجغرافيا فقط، بل يمس صورة روسيا وهيبتها كقوة عالمية.
الرئيس فلاديمير بوتين، المعروف بعناده في السياسة كما في الحرب، لا يظهر استعدادا للتراجع تحت الضغط، لكنه يواجه معادلة صعبة، إلا أن الاستمرار بهذا النهج يهدد بالمزيد من الاستنزاف، على الصعيد العسكري والسياسي والاجتماعي، مع ما يحمله ذلك من نتائج كبيرة يصعب تجاهلها في المدى القريب. من المؤكد أن الأسابيع القليلة المقبلة ستكون حاسمة في رسم ملامح هذه الحرب الطويلة، وربما في تحديد مستقبل القارة الأوروبية بأكملها. فقد أظهرت هذه المواجهة أن القوة وحدها لا تكفي لتحقيق النصر، بل إن اختيار التوقيت والهدف المناسبين هو الأهم.