عن صناعة الاستبداد

بشار نرش

حرير- بعد مرور 122 عاماً على وفاة عبد الرحمن الكواكبي، وفي ذكراها (14 يونيو/ حزيران)، لا يزال كتابه “طبائع الاستبداد ومصارع الاستعباد”، من أشهر الكتب السياسية في التاريخ العربي الحديث، باعتباره يحكي قصة، ويُمثّل حالة الاستبداد في عالمنا العربي والإسلامي بأوضح صورة.

قبل أكثر من مائة عام، ذهب الكواكبي، في جوابه على سؤال عصره الذي ما زلنا عالقين أمامه، إلى أن سبب تأخّر أمتنا العربية أو الإسلامية ما أصابها من استبداد سياسي، ولعلّ ما يسترعي الانتباه أنّ تبدّل الأنظمة السياسية في العالم الإسلامي لم يكن له أيّ تأثير في إيقاف تيّار الاستبداد مثلما خلص إلى ذلك الشيخ محمد الغزالي، فقد ظلّ عالمنا العربي والإسلامي يجترّ أنظمة تسلّطية عتيقة، على عكس أوروبا التي استطاعت التحوّل من أنظمة ثيوقراطية وإمبراطورية إلى أنظمة مقيّدة بالقوانين والمؤسّسات الديمقراطية، ومن يتأمّل خريطة المنطقة العربية، في وقتنا الراهن، يدرك هذه الحقيقة، فأغلب الأنظمة السياسية في دولنا العربية والإسلامية ذات طبيعة استبدادية، إلى درجة أن وصل الأمر بعديدين من “الزعماء” المعاصرين لهذه الدول إلى حد اختزال تاريخ شعوبهم ودولهم في شخوصهم.

للاستبداد صناعته مثل أيّ صناعة أخرى، هي عملية مركّبة تتشابك فيها العوامل السياسية والاجتماعية والاقتصادية والثقافية، لتنشأ أنظمة حكم تتّسم بتركيز السلطة في يد فرد أو مجموعة صغيرة، فالاستبداد في منطقتنا يعدّ صناعة متقنة بكل جوانبها، فلولا الموالون والمؤيدون والمطبّلون والمزمرون لما كان المستبدّ مستبدّاً، سواء كان هذا مقصوداً أو عفوياً، فالمستبدّ كان إنساناً عادياً قبل أن يصبح مسؤولاً، ومارس كل مسؤولياته وزاد عنها، متجاوزاً سلطات غيره، ومُتحكّماً فيها. وإذا كان من حوله راضين بفعله، فإنهم بذلك يساهمون، وبشكلٍ فعّالٍ، في صناعة الاستبداد، وإيجاد مستبد يتسلّط عليهم، ويرسّخ فيهم ثقافة العبودية التي يتخلّلها التأييد والمدح والتقديس والتمجيد وموافقة الرأي والطاعة العمياء ومنحه الأوامر المطلقة والخضوع لها. وهنا تكون صناعة الاستبداد على أكمل وجه.

في هذا الخصوص، يرى الكاتب الفرنسي، إتيان دو لا بوسيي، أنّ الطاغية لا يكون مستبداً إلا إذا تخلّى الشعب عن حريته التي ولدت معه، يتنازل عنها بمحض إرادته ويسلّم بعبوديته ويسكنه الطمع والخوف والجبن. كما يرى أن الشعوب هي التي تصنع الطغاة طمعاً وأنانيةً وخوفاً من البطش، وهي غير مدركةٍ أن بطش المستبدّين متأتٍّ من طاعة مواطنيهم وخنوعهم وقبولهم بالتنازل عن أعزّ ما وُهبوا، وهو الحرية. وهذه طبيعة المجتمعات قليلة الوعي ضعيفة الإدراك، تُسلبُ حُرّياتها بإرادتها، لأنّها خضعت لثقافة العبودية، ورضيت بالاستبداد وزادت على ذلك مشاركتها في تلميع من يسوسها، حتى جعلت منه مُستبدّاً وحاكماً أبدياً، أو إلهاً كما كان قديماً.

إذن، الشعب مسؤول عن صناعة المستبدّ عندما صمت على أمارات الاستبداد الأولى، قبل أن يستفحل أمر المستبدّ الظالم، ويصبح الشعب عاجزاً عن مواجهته، والشعب مسؤول أيضاَ عن صناعة المستبدّ عندما تخلّى عن دوره في اختيار من يحكمه، ثم عن دوره في تقويم حكامه.

ومن جهةٍ أخرى، صناعة الاستبداد في منطقتنا واستقرار الأنظمة الاستبدادية فيها مرتبطان بشكلٍ أساسيٍ بفشل خصوم هذه الأنظمة بمختلف أطيافها، والذين يبدو أنّ أغلبهم يفتقر لرؤية بديلة كاملة تستطيع طرحها وحشد الأنصار حولها والتحرّك الجاد لتحقيقها، وهو ما قد يكون سبباً في طول عمر الاستبداد في المنطقة. وليست حال سورية والسوريين وتونس والتونسيين ومصر والمصريين والسودان والسودانيين وليبيا والليبيين واليمن واليمنيين وغيرهم سوى شاهد بسيط على المسار الطبيعي للعلاقة بين طغمة الحكم والمحكومين في ظل نظام الاستبداد. وبالتالي، تحتاج صناعة الاستبداد أفراداً على استعداد لأن يكونوا خانعين خاضعين مسلوبي الرأي والحرية، ويقوموا، في الوقت نفسه، بإعلامٍ موجّهٍ لتمرير عدّة أهدافٍ تكثر وتنقص بحسب المنتج المُراد ترويجه، وكذلك يحتاج معارضة ضعيفة مشتّتة لا حول لها ولا قوة تفتقر لرؤية سياسية أو خطّة عمل، غير قادرة على إدارة موضوع المعارضة وتحمّل أعبائه. لذلك حالة الاستبداد في منطقتنا مؤهلة للاستمرار مدّة طويلة طالما غاب وعي الشعوب وغابت الرؤية الواضحة للمعارضات الداخلية والخارجية، وكذلك الحركة القادرة على التلاعب بالنظام، وإبطال تأثير قمعه وكسب مزيد من الأنصار على المستويات، الداخلي والإقليمي والدولي، بمرور الوقت، حتى تستطيع إنجاز ذلك التحوّل المنشود. وتلك خطوات صعبة، وتحتاج كوادر ذات مهارات وخبرات خاصة، وتستغرق وقتاً طويلاً حتى تتحقق، لكن إدراكها والاتفاق عليها هو أول خطوة نحو وضعها حيز التنفيذ، ومن ثم الشروع في تحقيقها.

ختاماً، يمكن القول إنّ صناعة الاستبداد تعتمد على مزيج من تركيز السلطة، مع قمع المعارضة، والتحكّم في وسائل الإعلام، والتلاعب بالانتخابات، وقمع الحريات، وإضعاف الخصوم، وتعميم ثقافة التخويف من الموت. ومن ينظر إلى أغلب أنظمتنا العربية يرى أنّها أتقنت هذه الصناعة أيّما إتقان. ولذلك تفنّنت في صناعة القصور بدلاً من المدارس والجامعات، والسجون بدلاً من النوادي الثقافية والمتاحف وصالونات الفكر، والمعسكرات بدلاً من المشافي والمراكز الصحية ومعامل الكيمياء، وبذلك نجحت في صناعة الاستبداد وتطبيع الاستعباد وترويج الفساد.

مقالات ذات صلة