عدالة كريم خان المتأخّرة ليست عادلة

سامية عيسى

حرير- نبالغ إذ نبتهج بمحاولة المُدّعي العام في محكمة الجنايات الدولية، كريم خان، تحقيق العدالة، عبر الطلب من المحكمة في لاهاي إصدار مُذكّرات اعتقال في حقّ رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو ووزير أمنه يوآف غالانت، لوجود أسباب معقولة، بحسب خان، لارتكابهما جرائم حرب وجرائم ضدّ الإنسانية. فالحقيقة أنّ محاكمة قيادات إسرائيل أو الدعوة إلى محاكمتهم على جرائمهم تأخّرت منذ 1948، عام النكبة الفلسطينية الأولى. وما فعله خان، الذي ظلّ سنوات يتقاعس، بل ويتبنّى علناً الرواية الإسرائيلية، هو ما كان عليه أصلاً أن يفعله كأيّ رجل قانون نزيه موكَل بوظيفة قانونية ترعى شؤون الشعوب والجماعات من أن تقع فريسة لجرائم حرب أو جرائم ضدّ الإنسانية، بغضّ النظر عمّن تكون الضحية أو قوّة هذه الشعوب والجماعات أو ضعفها ضدّ مضطهديها. هذه العدالة المُتأخّرة منقوصة وظالمة، لأنّها سمحت لإسرائيل بمواصلة انتهاكاتها ضدّ الشعب الفلسطيني، وارتكاب جرائم الإبادة الجماعية والتطهير العرقي عقوداً، وصولاً إلى الإبادة الجماعية المُروّعة التي ترتكبها، وما تزال، في غزّة، منذ شهور ثمانية أمام أبصار العالم بكلّ فجور وغطرسة.

لا يشفع لكريم خان محاولته تحقيق حلم المساءلة القانونية لقادة إسرائيل أخيراً، ومطالبته قضاة “المحكمة الجنائية” بإصدار مُذكّرات اعتقال نتنياهو وغالانت، لاعتقاده بوجود أسباب معقولة لارتكابهما جرائم حرب وجرائم ضدّ الإنسانية، طالما لم يتضمّن هذا الطلب اسم رئيس أركان جيش الاحتلال هيرتسي هاليفي، المسؤول الأول ميدانياً في غزّة عن تنفيذ هذه الجرائم وأعمال الإبادة الجماعية، وقادة الفرق العسكرية الكبار، الذين يمتثلون لأوامره من دون الأخذ في الاعتبار عواقب أفعالهم. فالإسرائيليون معتادون أن يتصرّفوا بوصفهم رعايا دولة خارجة عن القانون. هذا ما حدث في 1948، وهذا ما يحدث. لكنّ الأسوأ في قرار كريم خان الطلب باعتقال كلّ من يحيى السنوار ومحمد الضيف وإسماعيل هنيّة، بوصفهم مُجرمي حرب “ارتكبوا في السابع من أكتوبر الإبادة الجماعية وجرائم حرب وجرائم ضدّ الإنسانية”، وقد ادّعى أن لديه أسباباً “معقولة” تدفعه إلى المطالبة بإصدار مُذكّرات اعتقال في حقّهم. ومهما بدا هذا القرار مُسيّساً يحاول أن يُحدِث توازنا ما يستهدف فيه قادة الاحتلال، لكنّه خرج عن المعقولية تماماً حين طالب باعتقال قادة “حماس”، ليس لاستناده، كما رَشحَ من القرار، إلى أكاذيب ومزاعم بارتكاب كتائب الشهيد عز الدين القسام، في أثناء السابع من أكتوبر (2023) جرائم لم تثبت صحّتها، مثل قطع أعناق 40 طفلاً من مستوطنات غلاف غزّة أو اغتصاب نساء أو حرق الأطفال في الأفران ربطاً بأفران النازية، التي حُرق فيها يهود في زمن الهولوكوست، محاكاة هدفها إبراز مظلومية مزعومة ما تزال تلاحق اليهود حتّى إلى الدولة التي أنشأوها على أنقاض النكبة الفلسطينية والتطهير العرقي في 1948، بل كذّبوا لاستقطاب التأييد العالمي لما كانوا يخطّطون له تبريراً للانتقام الجماعي ولارتكاب الإبادة الجماعية التي نشهدها. وهي مزاعم إسرائيلية لم يتمكّن نتنياهو من إثباتها، بل كشفت “هآرتس” في تحقيقاتها المُستندة إلى مُحقّقين قانونيين إسرائيليين في أحداث 7 أكتوبر أنّها مُجرّد أكاذيب، وأنّ كُثراً قتلوا بسلاح الاحتلال الإسرائيلي، خاصّة في الحفل الموسيقي، وباستخدام برتوكول هانيبال، أيضاً، الذي يُجيز للقوّات الإسرائيلية قتل مواطنيها إذا اضطرّت، في معرض تصدّيها لقوّات معادية.

صحيحٌ أن قيادة “حماس” لم تضع في الحسبان حدوث النكبة الجارية في غزّة عندما اتخذت قرار عملية طوفان الأقصى، فضلاً عن تقصيرها في توفير المقوّمات اللازمة لأهالي غزّة من أساسيات الحياة، والعمل على توفير الحدّ الأدنى منها. لكنّ تلك مساءلة يقوم بها الشعب الفلسطيني نفسه داخل غزّة بشكل رئيسي، وكلّ فلسطين التاريخية، وتجمّعات الشتات. إنّ تزييف ما سمّاه كريم خان أسباباً معقولة لارتكاب قادة “حماس” إبادة جماعية في حقّ إسرائيل يستند إلى تلك الأكاذيب، التي يبدو أنّه أراد تصديقها عمداً رغم انكشاف حقيقتها بسبب تاريخه المُنحاز. ولم يكتفِ بذلك، بل أخرج معركة طوفان الأقصى من سياقها التاريخي المرتبط بمقاومة الاحتلال حقّاً فلسطينياً تكفله القوانين والمواثيق الدولية. صحيحٌ أنّ من قاموا بعملية طوفان الأقصى ارتكبوا أخطاءَ كان يجب تجنّبها، بحسب اعترافات وبيانات صادرة عن “حماس” في هذا الشأن، كخطف مدنيين ونساء وأطفال ومسنّين من غير الطواقم العسكرية الإسرائيلية الرسمية، وهذا أساء إلى صورة “حماس” والمقاومة الفلسطينية عموماً، واستُغلّ أيّما استغلال ضدّها. وربما كانت هذه الأخطاء وراء رغبة خان، وغيره، في تصديق أكاذيب نتنياهو وتشبيه ما جرى بأنّه استمرار للهولوكوست، في مبالغة فاقعة لهذه الأخطاء على جسامتها. وإن برّرت “حماس” بأنّ تداعيات معركة طوفان الأقصى، وسهولة المواجهات مع الشرطة الإسرائيلية، وقوّات الاحتلال، غير المتوقّعة، أخرجت الأمور عن السيطرة، ما دفع بعض العناصر من “القسّام”، وشبابا غزّيين من مختلف الفصائل، إلى ارتكاب هذه الأخطاء بشكل فردي، وأدّى إلى تجاوز بعض من شباب “القسّام” التحذيرات من ارتكابها، التي سبق لقيادة “القسّام” أن أرفقتها مع قرار بدء الهجوم. وهي أخطاء وارتكابات جرمية فردية تحدُث في كلّ الحروب، لا تعدّ دليلاً على ارتكاب جرائم حرب أو جرائم ضدّ الإنسانية، حتى مع فارق النسبة والتناسب بين هذه الأخطاء في مقارنتها بالإبادة الجماعية الوحشية، التي ما يزال جيش الاحتلال يرتكبها في حقّ أهل غزة. وهذا لا يعني أنّ هذه السطور بصدد الدفاع عن أخطاء “حماس”، بل نتوخّى الموضوعية والمعقولية في النظر إلى الأحداث، وإلى بيان المُدّعي العام للمحكمة الجنائية الدولية، كريم خان. ولذلك، ليس هنالك ما يخيف من خضوع الطرف الفلسطيني للمحاكمة، مهما قُدّمت ضدّه من افتراءات غير معقولة من الادعاء الدولي.

سابقة تقديم قادة إسرائيل للمحاكمة أمام “الجنائية الدولية”، على أهميتها، إنجازٌ كبير، لا يجب أن يُعمي بصيرتنا عما تتضمّنه هذه السابقة من مراوغة غير عادلة لا تليق بشرط النزاهة، التي يُفترض أن يتحلّى بها القضاة والمُدّعون العامون في المحاكم الدولية، كما المحلّية. وإن كان ثمّة طرف يُسائِلُ أو يُحاكِمُ ما جرى منذ “7 أكتوبر”، ومعركة طوفان الأقصى البطولية، فإنه يجب أن يكون فلسطينياً حتماً، وأولاً وأخيراً. ليس من باب الاختلاف مع الرؤية الكفاحية لحركة حماس، بل لجهة تجنّب أيّ طرف فلسطيني التفرّد باتخاذ قرار الحرب والسلم، وما يحمله قرارٌ كهذا من تكبيد الشعب تضحيات وخسارات لا قبل له بتحمّلها، وما قد يستتبعه من تقويض لإرادة المقاومة وتفتيت عزيمة الفلسطينيين/ات في مواصلة النضال جرّاء خسائر باهظة، كان يمكن تجنّبها لو أُخِذَ في الاعتبار الشعب ومصالحه الحيوية في أثناء الحروب والمعارك، وتداعيات مُحتملة كانت معروفة للجميع عن عنف ردّة الفعل الانتقامية التي قد تلجأ إليها إسرائيل.

نعم يجب أن يُسائِلَ الفلسطينيون أنفسهم في كلّ مرّة يستلّون فيها المقاومة المسلحة للاحتلال، ويُحضّرون مجتمعاتهم للمواجهات الحياتية والإنسانية، التي تتطلبها أي معركة، جنباً إلى جنب مع قراءة المشهد السياسي، وما تسمح به موازين القوى العربية والمزاج العربي العام، فضلاً عن الحسابات الإقليمية والدولية والتدقيق في مصداقية “الحلفاء”، والتزاماتهم، حين الإقدام على أي معركة. ولا شأن لكريم خان في هذا، ولا بالأخطاء التي ارتُكبت في أثناء أداء الواجب الوطني. هذا شأن فلسطيني صرف، ومساءلة فلسطينية بحتة، كي لا يُسمح بأيّ أفعال لا تشبه الشعب الفلسطيني. إنّ زج أسماء يحيى السنوار ومحمد الضيف وإسماعيل هنيّة ما هو إلا تمييع من كريم خان لجدّية المحاكمة، وإن أسعد قرارُه بالمطالبة باعتقالهم، ربمّا، بعضا ممن يخالفون “حماس” الرأي، أو ردّات فعل شعبية غاضبة من حركة حماس تحمّلها قسطاً من المسؤولية عن الكارثة التي حلت بهم إثر معركة طوفان الأقصى. وقد جاء الادعاء على السنوار والضيف وهنيّة في سياق الانحياز الفاقع لإسرائيل، الذي عوّدنا عليه كريم خان، في معرض أدائه دوره مُدّعيا عاما لمحكمة الجنايات الدولية.

لذا، ولأسبابٍ كثيرة تحيط بعجز و/أو انحياز المحاكم الدولية تجاه الجرائم الإسرائيلية المتواصلة في حقّ الشعب الفلسطيني منذ 1948، فإنّ القرار الذي ابتهج له كثيرون بوصفه سابقة، وهو كذلك، غير عادل ويفتقد للنزاهة القانونية والأخلاقية التي تتطلّبها المحاكمات العادلة بداهة، مهما واجهت من ضغوط، سواء من قادة الدول الإمبريالية الداعمة لإسرائيل أو من الجموع المليونية التي تطالب بوقف الإبادة الجماعية في غزّة، بل وقف الحرب نفسها، وتطلق على قادة إسرائيل مجرمي حرب.

تستند العدالة من أجل فلسطين، التي نطالب بها، إلى مقوّمات وأدلّة ملموسة لا يستطيع أيّ عاقل أن ينكرها أو يتجاهلها، وليس المُدّعي العام لمحكمة الجنايات الدولية فقط، وأسبابه المعقولة، فالأدلة الدامغة تطرق كلّ بيت وشاشة تلفاز وهاتف نقّال، في كلّ دقيقة، لترينا مناديل الدم المسفوك التي تحدّث عنها شاعرنا محمود درويش، وغنّاها مارسيل خليفة: “وذهبت تبحث خلف البحر عن معنى جديد للحقيقة/ وطني حبل غسيل لمناديل الدم المسفوك بكل دقيقة.. بكل دقيقة”.

مقالات ذات صلة