بين الهيئة والديوان.. نصف مليون تائه

أحمد الحسبان

حرير- محاولات عديدة لحل إشكالية الإدارة العامة بدءا بالتوظيف، والرواتب، والعدالة النسبية، وانتهاء بتطوير الأداء، قامت بها حكومات متعاقبة، غير أن النتيجة شكاوى متزايدة وترهل إداري.

آخر تلك المحاولات ما تم تطبيقه العام الحالي، من تغيير لمسمى ديوان الخدمة وتطوير في مهامه في مختلف المجالات، وسط تخوفات من أن تكون النتيجة واحدة.

ما أثار التخوفات إطلاق الحكومة لجملة من العناوين التي ستعمل الهيئة الجديدة على تحقيقها، ومنها الإلغاء التدريجي للتعيين بحسب الدور، واعتماد أسلوب جديد في تحديد الرواتب، وإعادة تنظيم الإجازات بدون راتب لتصبح أربعة أشهر في السنة وثمانية طيلة مدة الخدمة الحكومية. وهي عناوين اعتبرها المعنيون إشكالية ولا تخدم مصالحهم.

في السياق، نذكر جيدا ما قامت به إحدى الحكومات السابقة من إجراءات أطلقت عليها تسمية “إصلاح نظام الرواتب” في مؤسسات الدولة، وقدرت كلفة ذلك المشروع الذي استند إلى ثقة كاملة بإمكانية تحقيق العدالة بين موظفي الدولة في مختلف مواقعهم، بكلفة لا تزيد على ثمانين مليون دينار. ارتفعت مع التطبيق إلى أكثر من 300 مليون، وخلصت إلى نتيجة معاكسة، حيث وسعت الفجوة بين الموظفين بمختلف مرجعياتهم “مؤسسة أو وزارة أو هيئة”.

واتسعت تلك الفجوة عندما تبنّى تيار حكومي فكرة إدارة الدولة بنظام الشركات، من خلال اجتزاء يعض المهام واستحداث هيئات تمنح رواتب مرتفعة للقيام بها، وتحولت تدريجيا إلى موظفين منتقين وفقا لأسس طبقية لا علاقة لها بالكفاءة، وإنما بمصدر الشهادة التي حصل عليها الموظف، ومكانة ذويه أو من توسط له، وتكرست الطبقية بين الموظفين.

وأعلن ديوان الخدمة المدنية – آنذاك – عن سلسلة من الإجراءات التجميلية لنظام التعيين ومنها إجراء امتحانات تنافسية لملء الشواغر، بحيث يتقدم العشرات من أصحاب الطلبات للامتحان لملء شاغر واحد. وبعد تعبئة الشاغر يمنح الفائزون في الامتحان لقب” ناجح” ويضطرون للانتظار سنوات عديدة قبل أن يصلهم الدور في التعيين.

هذه وغيرها، من محاولات التحديث تم تطبيقها دون أن تحل المشكلة بشقيها “التوظيف وتحسين الإدارة العامة”، والمتمثلة بتراكم طلبات التوظيف وصولا إلى حوالي نصف مليون طلب عام 2023. مع ملاحظة أن الرقم متزايد سنويا، وأن الشواغر المتاحة – سنويا – لا تزيد كثيرا على عشرة بالمائة فقط من خريجي عام واحد.

فمع بداية العام الحالي 2024 لم يعد ديوان الخدمة المدنية قائما، وستحل محله هيئة جديدة اسمها “هيئة الخدمة والإدارة العامة”، ترتبط برئيس الوزراء، ويتولى إدارتها رئيس برتبة وزير وخمسة مديرين تنفيذيين.

ولم يعد بإمكان أي شخص التقدم بطلب توظيف جديد، وسيخضع المتقدمون وغيرهم إلى أسس جديدة للتعيين، أبرزها التعيين من خلال الإعلان المفتوح لنسبة معينة تبدأ بـ “12 بالمائة” من الشواغر هذا العام وتصل الى 85 بالمائة عام 2026 ، وإلى إلغاء المخزون” لدى الهيئة والانتقال إلى التعيين على الإعلان المفتوح بحلول العام 2027.

ووفقا لما تم الكشف عنه من ترتيبات، سيتم توزيع مخزون” الهيئة” من طلبات التعيين بشكل قطاعي، بما يتفق مع لا مركزية التعيين خاصة بين قطاعي التربية والتعليم والصحة بحيث تتولى الهيئة الجديدة التي أصبحت الخلف لديوان الخدمة المدنية ما يتبقى من ذلك المخزون.

وجاء المشروع الجديد كواحد من مشاريع التحديث التي أطلقتها اللجنة الملكية للتحديث والتطوير، وجرى تقديمها كحل لمشكلة الإدارة في مؤسسات الدولة رقابيا وتنظيميا، وبحيث تتبنى مبدأ “مركزية التخطيط ورسم السياسات ولا مركزية التنفيذ”.

وبالتوازي، ستختلف معادلة الرواتب بحيث يعتمد سلم الرواتب في النظام الجديد بشكل أساسي على تصنيف وتقييم الوظائف، وبحيث تلغى الأسس الحالية وتحل محلها أسس جديدة. وهناك أسس جديدة لمنح الإجازة بدون راتب للموظف، بإلغاء ما كان سائدا من حق للموظف بالحصول على إجازة بدون راتب لمدة عشر سنوات.

المشروع الجديد الذي لا نشكك في كفاءات الأشخاص الذين يتولون إدارته، نتمنى أن ينجح في حل المشكلة المستعصية ضمن شقي الإدارة والتوظيف، وندعو الله أن لا يكون مصيره كما مصير مشاريع سابقة، أو مقترحات تم التراجع عنها لانكشاف خللها. ونتمنى أن يجيب على تساؤلات العامة حول الضوابط التي ستحول دون تفريخ حقوق مكتسبة أخرى على غرار الهيئات المستقلة فيما يخص الرواتب، وتلك التي تتعلق بأسس التعيين.

فالضوابط التي يجري الحديث عنها تمتد إلى مجالي التعيين والراتب وامتيازات أخرى. والثغرات محل الشكوى مصير نصف مليون طلب تعيين بعضها يعود إلى 15 عاما فأكثر، والبعض منها يحمل لقب “ناجح” مع وقف التعيين. وكلها تحولت من انتظار دورها في التعيين إلى الإعلان المفتوح وسط تخوفات من أن العناوين الجديدة تغفل بعد التوظيف لصالح الإدارة بدلا من أن تأخذ المسارين معا.

فهل من إجابات مطمئنة؟

مقالات ذات صلة