عن اقتراح نفي قيادة حماس من غزّة

حيان جابر

حرير- يطرح الاحتلال الصهيوني، رفقة حليفه الأقرب الولايات المتّحدة، اقتراحاتٍ عديدةً تحقق له انتصاراً سياسيّاً رغم فشله، أو على الأقلّ استعصائه، العسكري ميدانيّاً، تنصّ إحدى أهمّ تلك الاقتراحات أو أخطرها على طرد (نفي) إبعاد قادة حركة حماس؛ وربّما قسم كبير من كوادر ذراعها العسكري، إلى خارج فلسطين وغزّة. إذ يذكّرنا هذا الطرح باجتياح بيروت، حين نجح الاحتلال في إبعاد قادة حركة التحرّر الوطني الفلسطيني ومعظم كوادرها إلى تونس والجزائر، لكن بين ثمانينيات القرن الماضي والمرحلة الراهنة فروق كثيرة مركزية لا يصح القفز عنها فلسطينيّاً.

بدايةً، وقبل الحديث عن الفروق الحاسمة، لا بدّ في البداية من التوقف عند تأييد بعض الأطراف؛ أفراداً ومجموعاتٍ، الفلسطينية لهذا الطرح الصهيوني، لاعتباراتٍ عديدةٍ، فمنهم من أصحاب التوجّهات السياسية المستسلمة التي تلتقي مع معظم الطروحات الصهيونية والأميركية، وفي مقدّمتهم للأسف قادة السلطة وحاشيتها. في حين يُحمّل آخرون حركة حماس مسؤولية تعقد اتّفاق الهدنة، لأسبابٍ عديدةٍ، لذا طالبوها بإبداء مزيدٍ من المرونة السياسية والتفاوضية، عبر قبولها وقفاً مؤقتاً لإطلاق النار، أو عبر موافقتها على نفي (طرد) إبعاد قادتها وقسمٍ من كوادرها، متجاهلين أن الهدنة المؤقتة لا تضع حدّاً نهائيّاً للحصار اللاإنساني والإبادة الجماعية، بل قد تساعد الاحتلال على إطالة عدوانه أشهراً عديدةً مقبلة.

كما وصف بعضهم رفض الحركة لطرد (نفي) إبعاد قادة الحركة وبعض كوادرها؛ ربّما معظمهم، إلى خارج فلسطين، بأنّه سلوكٌ غير مسؤولٍ ينمّ عن سعي الحركة إلى الاحتماء بشعبها، بدلاً من دورها في حماية شعبها، وهو ما يقارب المزاعم الصهيونية التي تتهم جميع فصائل المقاومة باتّخاذ المدنيين دروعًا بشريةً، إذ يستشهدون بقبول رئيس منظّمة التحرير السابق ياسر عرفات في ثمانينيات القرن الماضي باتّفاقٍ ينهي حصار بيروت، نصّ على إبعاد قادة المقاومة الفلسطينية ومعظم كوادرها في حينها من لبنان، رفقة سلاحهم المحمول، ملمّحين إلى نموذجية قيادة عرفات مقارنةً بسلوك قادة “حماس” الحالي.

ينطوي هذا الطرح على أخطاءٍ عديدةٍ، ومبالغةٍ خطيرةٍ لا يصحّ تجاهلها، إذ يربط هذا التعميم جرائم الإبادة الجماعية، والعقاب الجماعي، والحصار اللاإنساني وسواها من الجرائم الصهيونية الحالية والتاريخية بقرارات قيادة المقاومة الفلسطينية، وهو أمرٌ كارثيٌ بكلّ معنى الكلمة، لأنّه يتساوق مع الدعاية الصهيونية أولاً، التي تحمّل فصائل المقاومة مسؤولية جرائم الاحتلال الدائمة والمستمرة منذ بداية الاحتلال ذاته، كما يتجاهل ثانياً، بقصدٍ أو من دونه، مسؤولية الاحتلال الرئيسية عن كلّ تلك الجرائم، رفقة حلفائه وداعميه الدوليين والإقليميين، فمقاومة الاحتلال بكلّ الأشكال، بما فيها المقاومة العنيفة/ المسلحة، حقٌّ مشروعٌ ومقدّسٌ في كلّ الدساتير والقوانين الدولية والقطرية، وفي كل التشريعات السماوية، والأهمّ في القانون الدولي، في حين أن ممارسات الاحتلال الصهيوني مدانةٌ ومجرمةٌ في كلّ ما سبق، وهو ما علينا التمسّك به وتكراره دائماً وأبداً حتّى زوال الاحتلال كلّياً.

كذلك يتجاهل هذا الطرح الفروق الجوهرية بين عدوان حصار بيروت وعدوان الإبادة الجماعية الحالي على قطاع غزّة، فالأول كان خارج الأراضي الفلسطينية، داخل لبنان، خصوصاً في عاصمته بيروت، لذا كان يتطلّب استمرار العمل المقاوم في لبنان قبولاً لبنانيّاً واسعاً ليس بالعمل المقاوم فقط، بل بالعمل الفلسطيني كذلك. لذا كان قرار الانسحاب من بيروت ولبنان مرتبطاً بذلك تحديداً، أكثر من أيّ أمرٍ آخر، من دون التقليل من تأثير العوامل اللوجستية الأخرى، مثل محدودية الذخيرة الحية، ومشاركة قوىً لبنانيةٍ وعربيةٍ في العدوان الصهيوني على المخيّمات الفلسطينية في لبنان. في حين يستهدف عدوان الإبادة الجماعية الحالي الفلسطينيين داخل فلسطين، وتحديداً داخل قطاع غزّة المحاصر منذ 17 عاماً. وعليه، تمارس فصائل المقاومة الفلسطينية الحقّ الفلسطيني الشرعي في مقاومة الاحتلال من الأراضي الفلسطينية المحتلة، خصوصاً في ما يتعلق بتصدّيها للعدوان الصهيوني الحالي على قطاع غزّة، كما من حقّ كل فلسطيني، مهما كانت توجهاته أو انتماءاته، أو ممارساتها البقاء على أرضه أسوةً بكلّ شعوب العالم. وعليه، لا يصحّ، لأيّ سببٍ كان، القبول بمحاولة الاحتلال شرعنة التهجير القسري بحقّ سكان فلسطين الأصليين فرديّاً أو جماعيّاً، فطرد (نفي) إبعاد قادة “حماس” وبعض كوادرها يندرج في سياق سياسات التهجير القسري غير القانوني وفق الشرعية الدولية، ووفق كلّ القيم والمفاهيم القانونية والإنسانية والشرائع السماوية.

تاريخيّاً؛ شهد التاريخان، الفلسطيني والعالمي، شواهد عديدة لعمليات طردٍ (نفيٍ) وإبعادٍ قسريٍ بحقّ مناضلين، لكن تلك الحالات كانت لمعتقلين أسرهم الاحتلال سابقاً. وعليه، كان قرار الترحيل (النفي) الإبعاد كان قرار الاحتلال فقط، أي من دون الحصول على قبول الأسير أو المحتجز، حتّى لو كان في سياق صفقةٍ لتبادل الأسرى، فضلاً عن أنّ قبول الأسير أو المحتجز بالإبعاد/ النفي أو الترحيل لا يعد قبولاً طوعيّاً، نظراً إلى احتجازه القسري في ظلّ نظامٍ قانونيٍ منحازٍ وغير عادلٍ، مصممٍ خاصةً لخدمة الاحتلال.

عجزت قوات الاحتلال عن أسر أيٍّ من قادة فصائل المقاومة الفلسطينية، كما تدور شكوكٌ كثيرةٌ حول صدق إعلان الاحتلال أسره من كوادر الفصائل المقاومة، إذ تشي معظم الحيثيات المرافقة لتلك الاعتقالات، فضلاً عن بعض تقارير الإعلام الصهيوني إلى أن معظم؛ إن لم يكن كلّ، هؤلاء الأسرى من المدنيين الفلسطينيين العزّل، بناء عليه لا يملك الاحتلال حالياً القدرة على إبعاد (ترحيل) نفي قادة فصائل المقاومة قسراً، لذا لا يصحّ ولا يجوز مساعدته على إخفاء فشله الأمني والاستخباري والعسكري أولاً، فضلاً عن مساعدته في تطبيق جرائمه، أو بعضها، المدانة في القانون الدولي وفي مقدمتها جريمة التهجير القسري ثانياً، كذلك لا يصحّ منح الاحتلال سابقةً سياسيةً تشرعن عمليات التهجير القسري والطرد والنفي والإبعاد ثالثاً، إذ من المرجّح أن تصبح هذه السابقة مدخلاً دوريّاً يلجأ الاحتلال إليها لتشريع طرد (نفي) إبعاد فلسطينيين آخرين، منهم قادةٌ سياسيون ونشطاء مدنيون ممن يوثقون جرائم الاحتلال ويتصدون لها، بغضّ النظر عن طبيعة نشاطهم ونضالهم، سلمياً أم عنيفاً. وأخيراً علينا أن نؤكّد دائماً وأبداً عدم شرعية قرارات سلطات الاحتلال القضائية، على اعتبارها جزءاً من منظومة الاحتلال التي تساهم في استمرار الاحتلال ذاته تحت ستارٍ قانونيٍ كاذب، وهو ما ذهبت إليه عشرات التقارير الدولية والأممية الحيادية والموثوقة.

من ذلك كلّه؛ يتفق الكاتب مع اعتبار إنهاء العدوان والحصار اللاإنساني واللاشرعي، المفروض قسراً على قطاع غزّة، وإنهاء معاناة سكان القطاع الإنسانية كلّيا أولويّةً فلسطينيةً، والمهمة النضالية الأولى كذلك، بيد أن السبيل إليها يجب أن ينحصر في إرغام الاحتلال على إيقاف جرائمه، عبر مزيدٍ من الضغط الشعبي أولاً، والدولي ثانياً؛ يتصاعد الثاني كلما تصاعد الأول، على الصعيدين الدولي والإقليمي. وعليه، إنهاء ذلك كلّه مهمّة فلسطينية جماعية لا يصحّ حصرها في فصائل المقاومة فقط، بل علينا دائماً تأكيد حقّ كلّ شعب فلسطين في مقاومة الاحلال بكلّ السبل الممكنة، على اعتباره حقّاً فرديّاً وجماعيّاً.

مقالات ذات صلة