
السابع من أكتوبر… البداية والنهاية !
جواد بولس
حرير- يتعاطى الإعلام الإسرائيلي، هذه الأيام، أبعاد قرار بنيامين نتنياهو احتلال قطاع غزة ويتساءل حول مدى جدّيته، وكأنّ ما جرى ويجري على أرض غزة، منذ أن اجتاحها جيش الاحتلال الإسرائيلي وأحرقتها نيران قذائف طياراته، لم يكن احتلالا. لا يشغلني هذا الموضوع ولا النقاشات الدائرة حوله، فاستمرار الحرب بأشكالها السابقة أو اللاحقة، وإصرار نتنياهو على إلحاق الهزيمة بحماس، وهو يعرف أن تحقيق ذلك الهدف غير واقعي بالمطلق، يؤكد ما قيل حول هدف هذه الحرب الرئيسي، وهو استمرار القتال من أجل تصفية القضية الفلسطينية، أو سحقها حتى تفقد قوامها كقضية شعب يقاتل من أجل تحرره من الاحتلال، ونيله دولة مستقلة أسوة بشعوب الارض.
تحاول حكومة نتنياهو إنجاز هدفها بمخطط ثلاثي المحاور، وتستهدف في آن واحد الجبهات الفلسطينية الثلاث: تدمير غزة وتهجير أهلها أو قتلهم، وتحويلها إلى أرض يباب لا يمكن إعادة إعمارها في المستقبل المنظور. إن تصعيد اعتداءات الجيش وكتائب المستوطنين الدموية ضد سكان الضفة الغربية المحتلة والقدس الشرقية، وضد ممتلكاتهم وأرضهم بهدف تهجيرهم، أو قتلهم أو إخضاعهم كرعايا في مملكة اليهود – غير مسبوقة. والتضييق على المواطنين الفلسطينيين في إسرائيل بهدف إخضاعهم، هم أيضا، كرعايا أو تهجير من لا يرضى منهم بذلك، أو معاقبة العُصاة والمتمردين كما تجيز التوراة وقوانين المملكة.
يخدم تناقل الأخبار، حول وقوع خلافات بين نتنياهو، وقائد أركان جيشه، سياسة نتنياهو وألاعيبه في صرف الأبصار عما يضمره لفلسطين وللفلسطينيين؛ فالجميع يعلمون أن جيش إسرائيل لا يواجه في غزة جيشا منظما ونظاميا لحماس، أو لغيرها من الفصائل كي يحاربه؛ والجميع يعلم ويشاهد كيف يقوم الجيش الإسرائيلي بتنفيذ عملياته العسكرية بحرية شبه مطلقة، وتقتل قواته يوميا أعدادا كبيرة من الأبرياء، وتلاحق الناجين منهم وهم يهربون من «ملجأ آمن» إلى «ممر آمن» وليس عندهم منجى حقيقي آمن إلا أقدارهم، وتلك الصُّدف التي حدثنا عنها «لاعب النرد».
اعتمدت حركة حماس ومؤيدو عمليتها في السابع من أكتوبر 2023 موقفا يفيد بأن المواجهة بين الفلسطينيين وإسرائيل لم تبدأ في ذلك الصباح؛ ففهمت إسرائيل الرسالة، وأعلنت حكومتها أنه إذا لم تكن تلك بداية الحرب، والقصد كان أن البداية كانت في نكبة 1948، فلتكن إذن هذه الحرب نهاية للحروب بيننا وبينكم؛ وراحت تشن حربها وسط أجواء وبيئة داعمة، لقد استوعب نتنياهو، وهو القائد المجرب، معنى اللحظة التاريخية التي سنحت له، فاستغلها مؤمنا بأنها لحظة مؤاتية لتحقيق حلم الصهيونية القديم في التخلص من المسألة الفلسطينية. لكنه تخطى كل الحدود والمعايير والقيم، فانقلبت الموازين عليه، وأصبح يواجه معارضة واسعة لسياسته في العالم وداخل إسرائيل نفسها، نشاهدها في المظاهرات الكبيرة ضده.
لا يمكن الرهان على مصير حكومة نتنياهو، فالكثيرون داخل المجتمع اليهودي في إسرائيل معنيون بإسقاطها؛ لكننا يجب أن نتوقع الأسوأ وأشكالا جديدة أكثر خطورة من القمع والملاحقات والاضطهاد التي خبرناها، فماذا لدينا لنصمد ومن سيحمينا؟ لدينا تاريخنا في مواجهة سياسات القمع والتضييق والحصار، ولدينا إرادتنا، إن تعقلنا، ولدينا مجتمع، رغم علّاته، قادر، إن أُعِدّ، على مواجهة ما تخططه هذه الحكومة؛ ولدينا المؤسسات القيادية، السياسية والمدنية. ولدينا الأحزاب والحركات السياسية التي تمثل مجموعة التيارات السياسية الفاعلة بيننا.
يمكننا تشخيص أربعة تيارات أساسية، قد يكون أوضحها هو التيار الإسلامي، أو «الحالة الإسلامية»، التي رغم تفرعاتها التنظيمية، لكنها تشكل في المحصلة الفضاءات الإسلامية الراهنة بيننا. يليه تيار قد يناسبه اسم «تيار العقلانية والواقعية النضالية» وهو تيار الجبهة الديمقراطية، صاحبة التاريخ الطويل في النضال ضد سياسات حكومات إسرائيل المتعاقبة، ثم التيار القومي الذي تحت خيمته ترتاح عدة أطياف تعتبر نفسها قومية. ورابعهم تيار «غير المنتمين» لجميع من سبق ذكرهم، وقد يكون هذا هو الأكثر تنوّعا من حيث عدد الفئات وحجمها أيضا؛ ويضمّ في الأساس فئات المأزومين من الحالة السياسية، والعازفين عنها، والخائفين من بطش الحكومة والمنتفعين منها والمتأسرلين على مختلف درجات أسرلتهم.
من الطبيعي أن تحمل هذه التيارات مواقف فكرية مختلفة، وحتى متناقضة نظريا، ولكن من غير الطبيعي أن تتبوأ هذه الاختلافات صدارة العلاقات بينها، خاصة في هذه الأوقات السياسية الاستثنائية والمخيفة؛ ومن غير الطبيعي أيضا أنهم، رغم تجاربهم معا خلال العقد الأخير، لم يعملوا على إيجاد صيغ توافقية تمكنهم، في ساعة الصفر، أن يقفوا في جبهة نضالية عريضة واحدة. قد تكون تلك مهمة مستحيلة؛ لاسيما إذا عددنا تلك القضايا الخلافية بينهم، فإننا سنجدها تغطي مساحة الحياة برمتها، فهم مختلفون حول الموقف من تحديد المخاطر التي يواجهها مجتمعنا، والاتفاق على أولويات وسبل مواجهتها؛ ومختلفون حول الموقف من إسرائيل وكيفية التعامل مع مؤسسات الحكم فيها، وماهية الخطاب الذي يجب اعتماده، وكيفية العمل على تحقيقه؛ ومختلفون حول الموقف من حل القضية الفلسطينية، والموقف من القيادة الفلسطينية؛ ومختلفون حول تعريف الحقوق الفردية الأساسية والموقف من المرأة وحقوقها؛ ومختلفون حول الموقف من تعريف الحلفاء والأعداء. لن أسترسل أكثر، ولكن تبقى أخطر خلافاتهم ما يضمره قادة تلك التيارات، بعضهم لبعضهم، من كراهية وتشكيك وتنافر.
لن تتسع هذه العجالة للوقوف عند جميع تلك الخلافات وتأثيرها على وحدة نضال المواطنين العرب، ونجاعته؛ لكنني سأشير إلى مسألة واحدة لأهميتها في الظروف السياسية الحالية، وفي ظل تنامي ظاهرة الاحتجاج ضد سياسة حكومة نتنياهو؛ فما هو موقف القيادات والمؤسسات العربية من المشاركة في هذه المظاهرات، أو من العمل المشترك مع قوى يهودية وصهيونية لمواجهة خطر الفاشية وسياسات الحكومة ضدنا؟ رغم أن معظم الأحزاب والحركات السياسية أعلنت في برامجها عن ضرورة التعاون مع كل القوى اليهودية التي تشاركنا التطلع إلى مستقبل مبني على المساواة التامة والاحترام المتبادل في دولة ديمقراطية مشتركة، وجدنا كيف بقي ذاك الكلام مجرد شعار يتيم ومنسي. أقول هذا منتقدا معظم الأحزاب المعروفة بيننا وبضمنها الجبهة الديمقراطية رائدة الدعوة إلى النضال العربي اليهودي تاريخيا؛ فرغم وضوح موقفها التاريخي، التزم معظم قادتها الصمت أو نأوا عن هذا المبدأ في المحطات الفارقة؛ بل سنجد أن بعضهم انضم إلى الجوقات التي هاجمت من ينادي ويسعى لبناء شراكات يهودية عربية تؤمن بضرورة وقف الحرب على غزة وإنهاء الاحتلال ومساواة المواطنين العرب باليهود بشكل تام.
سيواصل نتنياهو وحكومته حربهم على غزة ولن ينجح في تحقيق هدفه، إلا أنه سيترك فيها دمارا مروّعا وآلاف الضحايا الجدد، وكذلك سيفعل في الضفة الغربية ولن ينجح في تحقيق هدفه، إلا أنه سيزيد من مشاهد الدمار والقتل أكثر وأكثر، وسيحاول، مع حكومته، أن «يغلق الحساب معنا» في إسرائيل، إلا أنه لن ينجح، أو ربما سينجح جزئيا ويضاعف معاناتنا وخسائرنا ومنها الخسائر البشرية.
بدأنا في الأسابيع الاخيرة نسمع عن حراكات حزبية متواضعة هي أقرب لعمليات جس النبض بين قيادات لا يسكن الود الصادق بينها. وأخشى أننا سنشاهد ونسمع ما رأينا وسمعنا في الجولات السابقة، خاصة، إذا استمرت مؤسسات الجبهة الديمقراطية بالتنكر لمبادئها الأساسية، وحزب التجمع الوطني لا يملك «عصمته السياسية» الكاملة، إذ تَدين بعض قياداته إلى من يغذيها ويوجّهها من الخارج، وإذا مضت الحركة الإسلامية على طريق بناء نموذج «المسلم الإسرائيلي»؛ وتركوا الفئة الرابعة لتفتش عن مساندها ومرابعها ومنافعها. لا تراهنوا على خلافات نتنياهو ورئيس أركانه، ولا على الغيب ولا على جيوش إنقاذ، فإنها لن تأتينا..