بين المعبد الإيراني والمحفل الصهيوني

مهنا الحبيل

حرير- قصد أمين الحسيني خزعل الكعبي أمير عربستان العربية، التي تضم إقليم الأحواز الممتد على الساحل الشرقي من الخليج العربي، والتي احتلتها إيران ضمن خريطة التوسّع المدعوم لحكم الشاه، وكان هدف الرحلة الحصول على دعم في كفاح الحسيني وشركائه في العمل الإسلامي الوطني، لتعزيز قوة الإشراف على المسجد الأقصى، والأوقاف الإسلامية، والتي كانت تحت ضغط وحصار مباشر من النفوذ الإنكليزي، ومخطّط التهويد المبكّر، وحصل الحسيني على دعم مادّي كبير من الأمير العربي في حينها. غير أن النفوذ الاستعماري الضخم لبريطانيا استمرّ في طريقه نحو المخطّط الاستراتيجي لتقسيم المنطقة العربية، والتي كانت مقدّمة متوازية في زمنها مع ميلاد المشروع الصهيوني. ورغم محاولة الأمراء الكعوب تحييد لندن واستمالتها، والتي سلمتهم رسالة اعتراف باستقلال الإقليم العربي، إلا أن توجّه الإنكليز السرّي كان يُعزّز نفوذ طهران والتي كانت تمثل تاريخياً القوة الفارسية الإمبراطورية، وهي قضية مهمة للغاية، عملت عليها الكولونيالية الغربية، وكانت إحدى مهام الاستشراق الوظيفي تهيئة الأرضة الفكرية، والمخطّط التصوّري الغربي للهيمنة على الشرق المسلم. ورغم دخول فارس في الإسلام، وصدارة رجالٍ منهم ضمن البعث العلمي والفكري والسلوكي في الأمة، إلا أن بعث القوميات على أصولها القديمة ظلّ يصعد لا من خلال التلاعب الغربي الخطير والفتّاك فقط، ولكن في الإشكالية العميقة التي صنعتها عهود الاستبداد المتقدّمة.

وتُلاحظ هنا قضية مهمة جداً للمراجعة والتوقف عندها، فالمبادئ الإسلامية السامية للأخوّة تحت رابطة الإيمان، وجمع القوميات والأعراق المتعدّدة، بل والفسيفساء العميقة التنوّع التي نجح الإسلام في دمجها، وصهر هذه الأمم في بوتقة الإقرار الروحي ومرجعيته الأخلاقية، ثم أعلن بقوة إسقاط أي مدارٍ أو مقياس عنصري أو مذهبي، نُقض خلال الصراع السياسي العتيق، واستثمره الاستبداد المتعدّد منذ زمن بني أمية حتى عهد الانحطاط العثماني، وقس على ذلك السلطنات المذهبية المتعددة في تاريخ المسلمين.

وفي حين ذابت تلك التصدّعات وعادت الأمة إلى الالتحام السياسي الاجتماعي، في عهد عمر بن عبد العزيز، وهي قضية موثقة تاريخياً عند سلف العلماء وخلفهم، أي أن تلك العدالة السياسية والاجتماعية اكتسبت ثوباً شرعياً بربطها بمقاصد العدل والتآخي والحقوق الإنسانية في الإسلام، سرعان ما نقضها بنو أمية في تسميم عمر بن عبد العزيز، ونقض دستوره العملي فور وفاته. وهذا يحملنا على إعادة قراءة تاريخ التشريع الإسلامي، بتدقيق كبير، فحين نقف عند خروج النبي، صلى الله عليه وسلم، فزعاً من بيته لمواجهة الفتنة القومية المصغرة بين الأوس والخزرج، أو بين المهاجرين والأنصار، والتي عالجها بقوة فكرية فورية في حياته، عليه الصلاة والسلام، فإن النصوص التي وردت عنه في أحاديثه، وفي إعلانه، مؤشّرات جلية للفتنة الكبرى.

وفي حديث حذيفة وحوار عمر الفاروق له، نجزم بأن النبوة وشريعتها وضعتا تلك المبادئ السامية للنجاة من هذه الفتن، لكن مدار تطبيقها يخضع للاختبار الإلهي والابتلاء الذي وضعه الخالق ضمن ناموس الكون، فالأمة التي ترشد به يُكتب لها الرشاد، والأمم المضيّعة له، تسقط في أتون المحنة، حتى ولو كانوا أصحاب رسول الله. بل ذكّر النص القرآني، دوماً، بالدور السيئ لرجالٍ ينسبون أنفسهم إلى الدين الإلهي، نفّذوا أدواراً خطرة في تبديل الشرائع ونقض الحقوق والبهتان باسم الدين، وهنا نعود إلى أزمة الاستثمار في الرؤية المنحرفة باسم الدين أو المذهب، والتي يؤسَّس عليها مشروع سياسي خاص لهذه القومية أو تلك العصبية. وبالتالي، تتحوّل إلى قوة خطرة، تفرق حاضر العالم الإسلامي وتكسر أي شوكةٍ ممانعة له، وتُرصّف الأرضية المطلوبة للسقوط الكبير الذي نرى شواهده الآن، فتجتمع ثنائية الاستبداد والعنصرية الدينية القومية، مع حلم إسرائيل في مشروع واحد، وإن بقي لكل منهم مشروعه الخاص، فهم متقاطعون بالضرورة. ولذلك مثلت تصفية الوجود العربي في شرق الخليج مشروعاً مركزياً للشاه، وكان حكمه علمانياً موالياً للمشروع الإمبريالي، ولم يكن دينياً رغم أن حكم آل بهلوي وريث للتاريخ الصفوي، الذي تورّط، كالعثمانيين، في حربٍ طائفية دموية، استثمرتها القوى الاستعمارية في استهداف الشرق القديم، وكان حلمه الذي شجّعته بريطانيا عليه، مهمة إسقاط حكم الكعوب العربي، فاعتقلت طهران الأمير الشيعي العربي الشيخ خزعل، وصفّته في سجنه أسيراً في عام 1936.

وكانت إيران قد رفضت الاعتراف بعروبة البحرين، تبعاً للصراع القديم بينها وبين العرب في سلطنة عُمان وفي سلطنة الجبور العقيليين في الإحساء. ويُلاحظ هنا أن الجميع يدين بدين الإسلام، بما فيهم أمارة هرمز الصغيرة الموالية لفارس، والتي لعبت دوراً مركزياً في خدمة الاحتلال البرتغالي للخليج، ومذابح الصليبيين المروّعة فيه، وهو ما أفرد له حاكم الشارقة جزءًا من حياته البحثية، فالانقسام القومي وصراع المصالح هو من عزّز بعد ذلك المرجعية الطائفية، لنظام الثورة الإيرانية، فسارت في الطريق الممنهج نفسها لصالح ما تسمّيها قوى الاستكبار العالمي. فلا الشيخ خزعل الكعبي كان سُنياً، بل هو و80 % من شعبه الرافض مشروع إيران من الشيعة، ولا المفكر الإسلامي علي شريعتي سنّي، بل هو مؤسّس تيار التنوير الشيعي الحديث المناهض الصلب للاستعمار، وبالتالي، لم يكن المعبد الضخم الذي صنعته طهران الثورة شيعياً إلا في شكله واستقطابه، الذي نجح في تصدير الانقسام المذهبي، في حاضر العالم الإسلامي، فطوّر الإيرانيون أبشع صور الخرافة في التراث، الذي رفضه الإصلاحيون الشيعة، والذين واجهوا بأسها الشرس. غير أن العبرة، في نهاية الأمر، أن هذا المعبد الإيراني تقاطع مع المحفل الصهيوني، فكان احتفالهم الكبير متفقاً في الوقت وفي المصير، في زمنٍ تحج لهم قبائل الأنظمة الرسمية العربية، فيسقط هُراء عروبتها، تحت عمامة فارس ونجمة بني إسرائيل.

مقالات ذات صلة