الانتفاضة “منعطف تاريخي” من الظاهرة إلى النموذج

سيف الدين عبد الفتاح

حرير- من المهم أن نؤكّد لماذا اعتبرنا الظاهرة الانتفاضية والنموذج الذي مثلته منعطفا تاريخيا مؤثرا في سياقات حالة المقاومة، والتي بلغت ذروتها مع وقائع معركة طوفان الأقصى. ولا زلت أتذكّر هذه الكلمات المفتاحية في مسار المقاومة الفلسطينية التي شرعت في استخدام كل السبل الفاعلة، حينما كانت المناقشة لأحد طلبتنا في قسم العلوم السياسة لرسالة عنونت “النموذج الانتفاضي”. وكان رئيس لجنة المناقشة أستاذنا المرحوم عبد الوهاب المسيري. بدت أهمية الرسالة آنذاك في تحليل مفهوم الانتفاضة بوصفها نموذجا يحمل سياقات نظرية، كما مثّل، في الوقت ذاته، نموذجا تاريخيا مهمّا في تجلياته الانتفاضية المتراكمة؛ والتي مثّلت، من بعد، نموذجا قابلا للتكرار، حتى وإن تنوّعت أشكاله وتجلياته ضمن مسارات وأدوات متعدّدة لمقاومة المحتل الصهيوني الغاصب في فلسطين المحتلة.

أسس الظاهرة الانتفاضية بتحديد طبيعتها وكذلك استدعاء الذاكرة الحضارية لها منذ كانت “انتفاضة أطفال الحجارة”، وهي “الانتفاضة الكبرى” التي دامت سبع سنوات (1987- 1994)، الحدث الأوسع نطاقاً وتأثيراً في أواخر القرن العشرين، و”انتفاضة الأقصى” التي انطلقت عام 2000، تعدّ الحدث الأبرز دولياً والأعظم عربياً وإسلامياً مع مطلع الألفية الثالثة من القرن الواحد والعشرين، وقد سمّيت “انتفاضة الاستقلال” إشارة إلى استمراريتها حتى إنجاز التحرير الكامل لأرض فلسطين، وكذلك انتفاضة معركة المقاومة في سيف القدس؛ وتوّجت الانتفاضات بطوفان الأقصى في 7 أكتوبر/ تشرين الأول (2023)؛ إلا أن ذلك لا يعني أن الظاهرة الانتفاضية لم تكن موجودة في فلسطين من قبل، بل عرفها الفلسطينيون مع بدايات العقد الثامن من القرن التاسع عشر، عندما استشعروا ظهور علاماتٍ تغيّر الصفة القومية لأرض فلسطين، مع تزايد الهجرات السرّية لليهود القادمين من روسيا القيصرية، وزيادة استيلائهم على الأراضي.

يعبّر استدعاء هذا المدخل التاريخي المهم عن طبيعة الشعب الفلسطيني وقدرته على المقاومة والنضال بدون كلل أو ملل، وهو ما يثبت أن مصير هذا الاحتلال الاستيطاني إلى زوال، طالما بقي هذا الشعب الصامد المقاتل، فقد عرف الشعب الفلسطيني انتفاضاتٍ كثيرة، منها “”انتفاضة يافا والقدس” (1881)، ثم تفجرت “انتفاضة الخضيرة وملبَّس” (1886)، بعد تأسيس أول مستوطنة صهيونية (بتاح تكفاه)، مكان القريتين، عقب طرد الفلاحين الفلسطينيين منهما، واستيلاء اليهود على أراضيهم، و”توالت الانتفاضات الشعبية التي جاءت تعبيراً عن حالة القلق التي كانت سائدة عاماً بعد عام بلا توقّف، حتى عدَّت بالعشرات على امتداد التاريخ الفلسطيني المعاصر، وكان من أشهرها “انتفاضة موسم النبي موسى” (1921)، و”انتفاضة ثورة البراق” (1929)، و”انتفاضة ثورة القسّام” (1935)، و”انتفاضة الثورة الكبرى” (1936-1939)”.

يجد المتأمل في التاريخ الانتفاضي للشعب الفلسطيني ومقاومته للاحتلال الاستيطاني الغاصب أن هذه الظاهرة قد تحوّلت إلى نموذج انتفاضي خاصّ بفلسطين. ومن الممكن أن نعتبر أن التحليلات المكثفة التي تستدعي نظرية “أثر الفراشة” للتعبير عن اتّساع هذا النموذج الانتفاضي عالميا، يؤكّد على دلالة هذا التحوّل وأهميته، فالنموذج الانتفاضي الفلسطيني وامتداد قدرته خاصة عقب “7 أكتوبر” على المقاومة وكسب مؤيدين جدد من بيئات غربية، كان الإعلام الصهيوني قد حقق امتدادات واسعة فيها، ما يؤكّد على هذا الاتساع ورسوخ هذا النموذج الانتفاضي، وتقديمه بكل مفاهيمه وقيمه وسماته وآلياته بعد استجلائها وتحليلها وتفسيرها، ليكون حافزاً للمجتمعات التي تتعرّض لظلم بالغ للنهوض وبناء القوة لإيجاد مكانة مناسبة لها في ظلّ النظام الدولي الظالم المفتقد أي نوع من منظومة العدالة، وتغلب على مواقفه انتقائية وازدواجية المعايير.

من الأهمية بمكان الإشارة إلى أن الظاهرة الانتفاضية متلازمة مع الظاهرة الاستعمارية، وكلما زاد الاستعمار شراسة وعنفاً اشتدّت، وازدادت قوة واستمرارية حتى تحقق أهدافها، وهي مرتبطة أيضاً مع الظاهرة الاستبدادية في نظام السلطة، حيث تنفجر بقوة مع انتشار الظلم والاستغلال وكبت الحريات وهضم الحقوق، ودائماً يحاول الطرف المعتدي في الحالتين إجهاض الانتفاضة أو القضاء عليها. كما أن الظاهرة الانتفاضية متأصلة في المجتمع العربي والإسلامي، شأن المجتمعات الإنسانية الأخرى، وهي من سماته؛ ترتبط بالنسق المعرفي والإطار المرجعي للمقاومة. وتتسم الظاهرة الانتفاضية أيضاً ببناء فكري متميز لارتباطها بشبكة المفاهيم ومنظوماتها، التي تجعل من مفهوم الانتفاضة مرادفاً لمفهوم المقاومة أو صورة من صوره أو إحدى تجلياته.

الجدير بالذكر أن الانتفاضة الفلسطينية ليست مرحلة من الكفاح الوطني الفلسطيني، ولكنها ظاهرة أصيلة تزامن ظهورها مع استيطان الاستعمار الصهيوني في أرض فلسطين، وستظلّ قائمة طالما بقيت الأمة العربية والإسلامية، وطالما بقي المستعمر. ورغم أنها تتصاعد أحياناً وتخبو أحياناً أخرى، إلا أنها تظلّ توصف بالاستمرارية والشمولية والتصاعد إلى التخلص من المستعمر والتحرّر منه، وخصوصا أن الظاهرة الانتفاضية الفلسطينية حركة فاعلة تتضمّن مشاركة خلاقة وفعّالة للمجتمع كله، لها جذور عميقة ومتعدّدة الأشكال في تاريخ فلسطين، وفي ظلّ توفّر مبدأ الكفاية الذاتية، وشروط الاستمرارية، وعامل المناعة ضد الزوال، ووجود رؤية إدراكية للذات، ولقدراتها ببذل غاية الوسع بما لا مزيد عليه؛ وتؤكّد أن الحالة الانتفاضية ترتبط بفكرة المقاومة التي لا تموت؛ فتبقى المقاومة ما بقي الاحتلال والظلم والغصب والطغيان.

وتمثل الظاهرة الانتفاضية من المنظور الحضاري واحدةً من حلقات الثورة على انحراف وجهة التعامل مع الصراع المفروض على المنطقة، وهو صراع شامل بأبعاد عقدية وحضارية وتاريخية وجغرافية. ولم تندلع الانتفاضة لتصحيح اتفاقياتٍ وحدود، بل لتصميم مسيرة واتجاه على المستويين العربي والإسلامي. وقد وجّهت الانتفاضات الفلسطينية المستمرّة ضربات قوية ومتتالية للجهود المبذولة لصناعة إنسان عربي منزوع الهوية ومستلب في وعيه الجمعي، واستطاعت كشف وجه الولايات المتحدة المساند لإسرائيل في كل ما تقوم به من قمع، مُحدِثةً تحوّلا شعبيا عربيا وإسلاميا شاملا في المقاطعة؛ ودعا إلى استمرارية المواجهة والمقاومة بكل أشكالها مع سلطة الاحتلال، ما يعكس دلالة على أن الفرد العربي لم يعُد متفرّجاً، بل يتوقع له أن يكون عنصراً فاعلاً في دعم المقاومة واستمراريتها، بل اتّخذ الأمر أبعادا جديدة عقب 7 أكتوبر، سواء في معادلة الصراع المباشرة مع الكيان الصهيوني أو في التدافع الأوسع لمواجهة تحدّيات الأمة.

من هذا المنطلق، تشكّل الانتفاضة ثورة للذات الحضارية، بمنهجها الكفاحي الطويل المدى، وبطرحها مشروعا حضاريا جديدا، يعالج مشكلات الانفصام الحضاري، مستنداً إلى الذاكرة التاريخية للصراع، إضافة إلى البعد العقدي الديني له؛ ويعكس، من جهة أخرى، طليعة للتغيير في الدول المهمّشة، والتي وقع عليها الظلم البيّن والفاضح من قوى الاستعمار، ومنهجاً للتحرّر من التبعية. وقد ساهمت، من جهة أخرى، في ولادة قيم وأنماط سلوك حضارية جديدة، شكّلت نقيضاً لمجموعة القيم وأنماط السلوك المعاكسة التي تناهض أفكار التمييز والعنصرية والنهب والهيمنة وصناعة الفرقة والانقسام، وأفشلت مشاريع التطبيع في المنطقة، وأعادت مركزية القضية الفلسطينية في الضمير العالمي والوعي الإسلامي بصورة راسخةٍ ومتينةٍ، ستكون لها انعكاساتها الممتدّة.

وليست الانتفاضة مشروعاً لمواجهة سلطة الاحتلال، لكنها ثورة شاملة في مواجهة كل صنوف الظلم والهيمنة تنتج مشروعاً حضارياً، متضمّناً ثورة ثقافية فكرية، ونموذجاً معرفياً يحاول انتشال العقل العربي من مقولة “الهزيمة الحضارية” التي كرّست التبعية للغرب، ويضعه في أجوائه الحضارية المتميّزة والفاعلة. وذلك من خلال طرح أربعة عناصر للمشروع الحضاري: التمرّد على الغرب الاستعماري، التحرّر من التبعية والانكسار والهزيمة، البحث عن نموذج حضاري بديل يرتبط بالذاكرة الحضارية من جانب ومتطلبات الوعي بالثقافة السائدة في الجماعة الوطنية.

هكذا تنتقل الظاهرة الانتفاضية من كونها ترتبط بتجليات انتفاضية ترتبط بالحالة الفلسطينية إلى نموذج مقاوم في مواجهة التحدّيات وتقديم استجابات فاعلة وعادلة؛ فتشير إلى ضرورة بناء هذا النموذج الانتفاضي المقاوم مقدّمة لتفعيله وتشغيله. وتزكّي كل هذه الأمور فكرة أن تكون الانتفاضات منعطفا تاريخيا في ميادين النهوض والتغيير.

مقالات ذات صلة