سقوط الرواية الصهيونية

علي أنوزلا

حرير- منذ بدأت عدوانها ضد قطاع غزّة، اعتمدت إسرائيل على رواية كاذبة جعلت العالم الغربي وقادته وجزءاً كبيراً من رأيه العام يؤيدونها بلا شرط وبدون حدود ويتغاضون، بل ويبرّرون جرائمها، باعتبارها تندرج في إطار حقها الطبيعي والشرعي والقانوني في الدفاع عن النفس حتى لو أدّى ذلك إلى إبادة أكثر من 1% من سكان غزّة المدنيين البالغ عددهم 2.3 مليون نسمة، وهي أكبر نسبة ضحايا تخلفها حرب منذ الحرب العالمية الثانية. لكن، ليست هذه المرّة الأولى التي تلجأ فيها إسرائيل إلى أساليب الكذب لتوسُّل التعاطف والدعم والمساعدة، فبنية العقل الصهيوني مركّبة من هذا النوع من الزيف القادر على خلق أساطير وجعل الناس يصدقونها، ألم تقم إسرائيل نفسها على مجموعة من الأساطير الخرافية التي وضعتها الصهيونية وحولتها إلى مقدسات يصعب نقدها أو التشكيك في صحتها؟!

فمنذ صباح يوم 7 أكتوبر، قامت السردية الإسرائيلية على ثلاث كذبات كبرى، روّجتها بقوة في العالم لحمله على التعاطف معها والاصطفاف إلى جانبها في حربها الإجرامية التي تقودها منذ ذلك اليوم بلا هوادة لإبادة أهالي غزّة وتحقيق نبوءاتها الأسطورية الكاذبة. تمثّلت الأولى في سردية الاعتداء الذي تعرض له الكيان الصهيوني، وكأن تاريخ الصراع بدأ في السابع من أكتوبر، بينما هو يأتي في سياق صراع تاريخي مفتوح عمره 75 سنة منذ عهد النكبة الأولى التي أدّت إلى تشريد الفلسطينيين وطردهم من أرضهم التي يحتلّها غرباء أوفدتهم الصهيونية من جميع بقاع العالم وحولتهم إلى آلات قتلٍ بشريةٍ لم تتوقّف يوما جرائمهم البشعة بما فيها المجازر المروّعة التي ذهب ضحيتها آلاف الفلسطينيين الأبرياء، فماذا كانت إسرائيل والدول التي تدعمها اليوم تنتظر من الشعب الذي وقع عليه أكبر ظلم تاريخي؟ أليس من حقّ هذا الشعب أن يقاوم مستعمره ومحتلّه وجلّاده وغاصب أرضه وحقوقه؟ لذلك فإن هجوم يوم 7 أكتوبر الذي اختارت المقاومة الفلسطينية وصف عمليته بـ “طوفان الأقصى” ليس سوى حلقة من حلقات هذا المسار النضالي الفلسطيني الطويل على طريق التحرر والاستقلال، لم يكن هو الأول، وإن هو كذلك من حيث حجمه وقوّة صمته، ولن يكون الأخير حتى يستعيد الفلسطيني حقوقه المسلوبة، ويقيم دولته المستقلة فوق أرضه التاريخية المحتلة.

الرواية الكاذبة الثانية التي أسّست عليها إسرائيل حربها الإجرامية المستمرّة ضد سكان غزّة العزّل والأبرياء، أن المقاومة الفلسطينية في هجومها على المستوطنات قتلت الأطفال والنساء، بل وحرقتهم وهم أحياء حتى تفحمت جثثهم، من أجل “دعشنة” حركة المقاومة، وهكذا روّجت الآلة الدعائية الصهيونية هذه الرواية الزائفة منذ بداية عدوانها على سكان غزّة بالادعاء أن المقاومين ذبحوا الأطفال، وعندما انكشف زيف هذه الرواية التي روّجها الرئيس الأميركي جو بايدن بنفسه، عادت الآلة الدعائية الصهيونية للترويج لرواية حرق الجثث والتشهير بها، وقامت بتسريب مقاطع فيديو لجثث متفحمة لمستوطنين داخل بيوتهم تم عرضها داخل الكنيست، وعرضت مقاطع منتقاة منها على زعماء غربيين زاروا إسرائيل للتضامن معها لدفعهم إلى شرعنة حربها الإجرامية ضد الفلسطينيين، بدعوى الحقّ في الدفاع عن النفس. لكن حتى هذه الرواية سقطت أخيرا عندما نشرت صحيفة هآرتس العبرية، النتائج الأولية لتحقيق قامت به الشرطة الإسرائيلية يكشف أن تدخل الطيران الحربي الإسرائيلي يوم 7 أكتوبر أدى إلى مقتل جزء كبير من المستوطنين، وهو ما أقرّه الجيش الإسرائيلي الذي اعترف بأن 200 جثة متفحمة عثر عليها في المستوطنات تعود لمقاتلين فلسطينيين، ما دفعهم إلى تكذيب أنفسهم والتراجع عن كون الهجوم خلّف 1400 ضحية في صفوفهم، وخفض العدد إلى 1200 ضحية، وحتى هذا الرقم مشكوك في صحته، أو على الأقل سيتم مستقبلا، عندما تتشكّل لجنة تحقيق قضائية داخل إسرائيل بعد نهاية هذه الجرائم، أن أغلبهم قتلهم الطيران الحربي الإسرائيلي والجيش الإسرائيلي الذي يعمل بمنطق بروتوكول هانيبعل الذي يخوّل لهم قتل مواطنيهم عندما يتحولون إلى رهائن في أيدي خاطفيهم. ويبدو منذ الآن جليّا وبالعين المجرّدة، من خلال الصور التي تتوفر عن حالة المستوطنات بعد هجوم أكتوبر، أن حجم الدمار الذي لحق بتلك المستوطنات وأرتال السيارات المحروقة على طول الطرق السيّارة والغابات التي التهمتها النيران، لا يمكن أن تكون نتاج الأسلحة التي كان يحملها المقاومون الفلسطينيون على أكتافهم، وإنما هي نتيجة نيرانٍ كثيفةٍ أغلبها مصدرُه من السماء سقطت على المنطقة مثل عاصفة حارقة. وسيأتي اليوم الذي يكتشف فيه العالم زيف هذه الكذبة الكبيرة التي بنت عليها إسرائيل كل جرائم الحرب التي ما زالت تواصل ارتكابها ضد الفلسطينيين. ولكن عندما يحدث ذلك سيكون الأوان قد فات! في حين أن من قتل الفلسطينيين فعلا ويقتلهم يوميا ويحرقهم داخل بيوتهم هو المستوطنون اليهود الذين تحميهم الدولة العبرية وجيشها ومحاكمها، كما جرى مع عائلة الدوابشة الفلسطينية عام 2014 التي أضرم مستوطنون متطرّفون النار في بيتهم وهم نيام، فقُتل أغلب أعضاء العائلة حرقا، بمن فيهم الأطفال الصغار الذين تفحمت جثامينهم. وتكرر الأمر نفسه في فبراير/ شباط الماضي، عندما هجم مستوطنون مسلّحون ليلا على قرية حوارة الفلسطينية في الضفة العربية وأرهبوا سكّانها وأحرقوا بيوتها ودمروا متاجرها، ولم تسلم من حرائقهم حتى السيارات والأشجار، يومها لم يشهد العام كل هذا “الرُّهاب” الذي رأيناه في الغرب ووسائل إعلامه لدفع الناس دفعا إلى إدانة الجناة والتعاطف مع الضحايا!

الرواية الزائفة الثالثة التي اعتمدتها الآلة الصهيونية لتبرير جرائمهم ضد الإنسانية هي الادّعاء أن المقاومة الفلسطينية تتّخذ من المدنيين الغزّيين دروعا بشرية للاحتماء بهم، ومن المستشفيات معاقل لمقرّات قيادتها، وطوال أكثر من 46 يوما والعالم يستيقظ كل صباح على مجازر صهيونية تستهدف أحياء سكنية وبيوت سكان آمنين ومستشفيات ومدارس ومساجد وكنائس تدّعي إسرائيل أنها مقرات للمقاومة، ويُكتشف أن المقاومين المستهدفين هم مجرّد أطفال مساكين بينهم الرضّع والخُدّج، ونساء وشيوخ عزّل لا حيل ولا حوْل لهم، ولا ذنب لهم سوى أنهم وُلدوا في فوق الأرض التي لا وطن لهم غيرها. هذه الكذبة السمجة هي التي خولت لإسرائيل ارتكاب جرائمها المروعة في غزة، وشرعت لها قصف المستشفيات واقتحامها وطرد مرضاها وجرحاها وأطقمها أمام مرأى ومسمع من العالم وفي سابقةٍ لم يشهدها التاريخ، قبل أن تحوّلها إلى معسكرات ومخابئ لجنودها، ودائما أمام سكوت العالم وتواطئه، خصوصا ذلك المسمّى حراً كَذِبًا وَزُورًا وَبُهْتَانًا!

هذه ثلاث روايات كبرى أسّست عليها إسرائيل كل جرائمها التي ارتكبتها في حقّ الشعب الفلسطيني منذ هجوم أكتوبر، وقد تساقطت كلها، وسوف تكشف الأيام المقبلة مزيدا من زيفها، ومع الأسف نجحت الآلة الدعائية الصهيونية في الغرب في ترويجها، واستطاعت أن تخترق حتى بعض العقول الضعيفة في منطقتها العربية، وترهب بها أصحاب القلوب الرهيفة الذين يتباكون على مشاهد لم يروْها لأطفالٍ تم حرقهم داخل مستوطنات قصفتها الطائرات الحربية الإسرائيلية، ولا يرون جثث (وأشلاء) الأطفال التي تعج بها أزقة غزّة المدمّرة وشوارعها!. ولكن مهما حاولت إسرائيل وآلتها الدعائية الضخمة ترويج رواياتها الزائفة، وشيطنة كل ما له علاقة بالفلسطيني، ففي النهاية سوف تنتصر الرواية الفلسطينية، ليس لأنها الأقرب إلى العقل والمنطق فقط، وإنما أيضا لأنها تستند إلى الحقّ شرطا أسمى، بدونه تصبح كل رواية مجرّد دعايةٍ عابرةٍ، وأصحابها مجرّد كاذبين عابرين.

مقالات ذات صلة