حتى لا تستفرد الولايات المتحدة وإسرائيل بقطاع غزّة

حرير- تشارف حرب الإبادة الإسرائيلية على قطاع غزّة دخول شهرها السابع، ولا يلوح ما يشير إلى قرب نهايتها. ولا يبدو أن إسرائيل، رغم الإدانة والاستياء الدوليين، وتصاعد الضغوط الأميركية المتردّدة والخجولة عليها في وارد وقف عدوانها، ذلك أنها لا تجد نفسها مضطرّة لمواجهة كُلَفٍ باهظة تردعها عن المضيِّ في جرائمها. حتى قرار مجلس الأمن، الاثنين الماضي، الذي دعا إلى “وقف نار إنساني فوري في شهر رمضان يقود إلى وقف إطلاق نار دائم”، وكذلك إلى “الإفراج الفوري وغير المشروط عن الرهائن المحتجزين” في قطاع غزّة، وامتنعت الولايات المتحدة عن نقضه، ما أثار غضب إسرائيل، لا يتوقّع له النجاح، خصوصاً حين تؤكد واشنطن أنه “غير ملزم” لتل أبيب. ومع عدم تقليلنا من القضية التي رفعتها دولة جنوب أفريقيا أمام محكمة العدل الدولية، والأمر الذي أصدرته المحكمة في شهر يناير/ كانون الثاني الماضي، لإسرائيل بـ” اتخاذ جميع التدابير لمنع أعمال الإبادة الجماعية”، حتى صدور قرار نهائي عنها، هذا على افتراض أن الدولة العبرية ستقبل الالتزام به، وهذا غير مرجّح، فإن القضية قد تأخذ شهوراً وسنوات طويلة كافية لأن تنجز إسرائيل فيها مهمّتها الوحشية في قطاع غزّة. ينسحب الأمر على تقارير المنظمات الإنسانية والحقوقية الدولية، كتقرير مقرّرة الأمم المتحدة للأراضي الفلسطينية، فرانشيسكا ألبانيز، الذي قدّمته أمام مجلس حقوق الإنسان، الثلاثاء الماضي، وأكّدت فيه ارتكاب إسرائيل أعمال إبادة ضد الفلسطينيين في غزّة. إذ إنه ما دام أن الولايات المتحدة مصرّة على استمرار منح إسرائيل الحصانة في مجلس الأمن، ستبقى الأخيرة تتصرف كدولة مارقة غير مبالية بشيء. ومن ثمَّ، لا حل إلا بتغيير حسابات واشنطن وتل أبيب، وهو ما يتطلّب مواقف جديدة ومختلفة، عربياً وإسلاميّاً، وعلى المستويين الرسمي والشعبي.

تناقلت وسائل الإعلام الأميركي، في نوفمبر/ تشرين الثاني الماضي، ومع دخول العدوان الإسرائيلي على قطاع غزة شهره الثاني حينئذ، تحذيرات صارخة أطلقها ديبلوماسيون أميركيون في العالم العربي، وأرسلت إلى الرئيس جو بايدن، أن دعم الولايات المتحدة المطلق للحرب الإسرائيلية “يجعلها تخسر الجماهير العربية على مدى جيل كامل”. قد يكون ذلك صحيحاً على صعيد القلوب والعقول، لكن حركة الشارع العربي والإسلامي كذلك لم تكن بالمستوى المطلوب، ومن ثمَّ لم تجد إدارة بايدن نفسها مضطرّة إلى التجاوب السريع والحاسم والكامل مع تلك التحذيرات. حتى تصاعد حدّة التوتر وكثافة الاشتباكات بين إسرائيل وحزب الله على الحدود الشمالية لفلسطين المحتلة، وكذلك تصعيد الحوثيين عملياتهم في البحر الأحمر وخليج عدن، على أهميتها، ضد السفن التجارية المتجهة إلى إسرائيل، فضلاً عن الهجمات، من حين إلى آخر، من الفصائل الشيعية في العراق وسورية، على القواعد الأميركية في المنطقة، أثبتت كلها أنها غير ناجعة وحدها لإحداث تحوّل جذري في موقف واشنطن وسلوك تل أبيب. يذكّرنا هذا بالتصريح الساخر الذي كانت أطلقته السفيرة الأميركية السابقة في الأمم المتحدة، نيكي هيلي، عندما اعترف الرئيس السابق، دونالد ترامب، بالقدس المحتلة عاصمة لإسرائيل، عام 2017، قائلة إنه تمَّ تحذيرنا من “أن السماء ستطبق على الأرض لكن لم يحصل شيء”. وأضافت “مرَّ الخميس والجمعة والسبت والأحد ولا تزال السماء في مكانها ولم تسقط”.

لا سبيل لتغيير مقاربة التواطؤ والانحياز الأميركي لإسرائيل، وبالتالي، السلوك الإجرامي لها، سوى بإدراك أن هذه معركة وإن كان مركزها في قطاع غزة، إلا أن ساحاتها التي ينبغي أن تخاض فيها مختلفة ومتعددة. بغير ذلك ستباد غزّة عن بكرة أبيها، وسيخسر الفلسطينيون والعرب والمسلمون معركة مصيرية. لا بد أن تدرك واشنطن أن ثمَّة كلفاً استراتيجية باهظة لدعمها الأعمى واللامحدود للجرائم الإسرائيلية في قطاع غزّة، وينطبق الأمر على حسابات بايدن السياسية والانتخابية. ولا يعنينا هنا ما إذا كانت إدارة بايدن فقدت السيطرة فعلياً على حكومة بنيامين نتنياهو، فحتى إذا كان هذا التوصيف صحيحاً، فإنه ليس جرّاء افتقاد القدرة والأدوات على كبح جماح إسرائيل ولجمها، بقدر ما أنه نتيجة تواطؤٍ وانحياز مؤسّسي أميركي وعاطفي، وكذلك حسابات سياسية وانتخابية مجتزأة لبايدن. ينبغي أن يتغيّر هذا كله في الساحات المختلفة، وبوسائل تناسب كل ساحة. هذه ليست دعوة إلى العنف، وأنا لستُ في موقع المقرّر للحركات المسلحة في المنطقة، ولكنها دعوة إلى تفعيل الأدوات الرسمية والشعبية السلمية، وإذا لم تكن المواقف الرسمية، العربية والإسلامية، راغبة في تفعيل دورها، فحينها ليس أقلَّ من إكراهها شعبيّاً.

شهدنا في الأيام الأخيرة زخماً جماهيرياً أكبر في الأردن بعد أن نقل آلاف المتظاهرين الأردنيين احتجاجاتهم إلى محيط السفارة الإسرائيلية في العاصمة عمَّان. لا ينبغي السكوت على استمرار دخول شاحنات الخضار والفواكه القادمة من بعض الدول الخليجية إلى إسرائيل عبر الأردن في حين يتضوّر سكان قطاع غزّة جوعاً. ولكن الاحتجاجات الموسمية وببضعة آلاف فقط لن تحدث التغيير المطلوب. ينطبق الأمر على الضفة الغربية والداخل الفلسطيني ومصر وكل دولة عربية، وفي مقدمتها السعودية، وبعض الدول الإسلامية المركزية كتركيا التي تفيد تقارير بأنها لا زالت تصدر بضائع وسلاحاً إلى إسرائيل، فضلاً عن مرور أنابيب النفط عبرها إليها. لكن مصر تبقى بيضة القبان. النظام المصري شريك في حصار قطاع غزة مهما تذرع بالممارسات الإسرائيلية والاتفاقات التي تربط مصر مع إسرائيل. لم توفر إسرائيل اتفاقات ولا تفاهمات مع القاهرة إلَّا وداستها بقدميها. وما يجري من حربٍ إبادة وحشية بحق عرب ومسلمين وبشر في قطاع غزة يلغي أيَّ اعتباراتٍ مفترضة وادّعاءات مزعومة. وإذا كان النظام المصري ليس في وارد تغيير سلوكه، فإن العبء يقع على عاتق الشعب وقواه المدنية الحيَّة. هذه معركة مصيرية للأمَّة كلها، وهي معركة مصيرية لمصر نفسها. أفهم أنه تمَّ تقويض الروح الوثابة لدى الشعب المصري، كما لدى كثير من شعوبنا العربية على مدى السنوات الماضية. كما أفهم أنه تمَّ تجويف القوى السياسية والمدنية وإجهاضها. ولكن، إذا لم يكن ما يجري من جرائم فظيعة في قطاع غزّة هو جرس الإنذار لتحفيزنا، فمتى نستيقظ وننفض عن أنفسنا غبار الاستكانة والخنوع؟

لا يطلق كاتب هذه السطور شعاراتٍ صاخبةً رنّانة من واشنطن، آمناً على نفسه وأهله وماله، بل إنه يواجه تهديدات جسدية وتحرشات سياسية وأمنية وإعلامية ودعاوى قضائية كيدية جرّاء نشاطه ودفاعه عن الحقوق الفلسطينية. لكني لا أريد أن أشخصن الأمور هنا. هذه معركة مصيرية ووجودية، ليس لنا نحن الفلسطينيين فحسب، بل نحن عرباً ومسلمين وشعوباً وأمماً مقهورة. إنها اختبار لإنسانيتنا. القوى الإمبريالية (وأستخدم المصطلح تقنياً هنا لا إيديولوجياً) لا ترى في دمائنا وأرواحنا، نحن، عالم الجنوب المنكوب بهم ما يستحقّ الاعتبار والكرامة. وهم لن يحترمونا إلا مرغمين كارهين. هذا ما أدركناه كناشطين من أجل الحقوق الفلسطينية في أميركا. لم تبدأ مواقف بايدن، ونائبته كاميلا هاريس، وزعيم الأغلبية الديمقراطية في مجلس الشيوخ الأميركي، تشاك شومر، تتغير بشكل تدريجي وبطيء نتيجة صحوة ضمير مفاجئة، بل نتيجة إدراكهم أن دعمهم حرب الإبادة الإسرائيلية في قطاع غزّة سيكون له ثمن باهظ سياسياً. إنه صراع عزائم وإرادات، وليس صراع قوى مجرّدة فحسب. وإذا لم نفهم ذلك ونتحرّك بفعالية وتأثير في كثير من الساحات وَنُغَيِّرَ كثيراً من المعادلات، بما فيها قلب الطاولات إن تطلب الأمر، فإننا نخاطر بأن نُباد جميعاً، وليس في قطاع غزّة فحسب.

مقالات ذات صلة