كيف خسرنا الهند»: لماذا أصبحت نيودلهي داعمًا لإسرائيل

أحمد نظيف

قبل خمسة وثمانين عامًا حسم المهاتما غاندي موقف حزب المؤتمر الهندي من نوايا الانتداب البريطاني تسليم فلسطين لليهود. كتب غاندي في تشرين الثاني 1938 يقول: «إن تعاطفي مع محنة اليهود لا يعميني عن مقتضيات العدالة. فالمطالبة بالوطن القومي لليهود لا تثير اهتمامي كثيرًا. إن فلسطين ملك للعرب بنفس المعنى الذي تنتمي به إنجلترا للإنجليز أو فرنسا للفرنسيين. ومن الخطأ، وغير الإنساني، فرض اليهود على العرب. فما يجري في فلسطين اليوم لا يمكن تبريره بأي قواعد سلوكية أخلاقية. ومن المؤكد أنه سيكون جريمة ضد الإنسانية أن يتم تقليص عدد العرب بحيث تصبح فلسطين وطنًا، جزئيًا أو كليًا لليهود». كان موقف غاندي مدفوعًا، إلى جانب مقتضيات العدالة، بالعدو المشترك للعرب والهنود وهي بريطانيا. ذلك أن الرجل قد اختبر طويلًا مكائد الإنكليز ومآسي الاستعمار الاستيطاني. طبع الموقف الغانديّ، الرائد، مواقف حزب المؤتمر، حتى بعد رحيل المهاتما في عام 1947، وولادة الكيان الإسرائيلي عام 1948. 

قبل شهرين، غرّد رئيس الوزراء الهندي ناريندرا مودي، منددًا بطوفان الأقصى قائلًا: «لقد صدمنا بشدة من الهجمات الإرهابية في إسرائيل. صلواتنا مع الضحايا الأبرياء وعائلاتهم. نحن نتضامن مع إسرائيل في هذا الوقت العصيب». ومع أن حدة التضامن مع «إسرائيل» دوليًا قد بدأت في الخفوت بعد أيام من الهجوم، الذي أعقبه انتقام إسرائيلي وحشي طال المدنيين في غزة، إلا أن مودي واصل انحيازه إلى الجانب الإسرائيلي، عندما كتب بعد أيام، في أعقاب اتصال هاتفي مع نتنياهو: «إن شعب الهند يقف بحزم إلى جانب إسرائيل في هذه الساعة الصعبة. والهند تدين الإرهاب بقوة وبشكل لا لبس فيه بجميع أشكاله ومظاهره». وفي 19 تشرين الأول، جددت وزارة الخارجية الهندية تأكيد دعمها للحرب ضد الإرهاب.

بين موقف غاندي وحزب المؤتمر، وموقف مودي زعيم حزب بهاراتيا جاناتا، فجوة واسعة، تكشف عن تحولات جذرية جرت في الهند خلال الثمانية عقود الماضية، خسرنا خلالها، نحن العرب، أو على نحو أدق، خسرت خلالها فلسطين، حليفًا قويًا، لم يكف عن دعم قضيتنا فقط، بل أصبح في المعسكر المقابل، داعمًا لكيان الاحتلال. كيف حدث ذلك؟ وضمن أي سياق، وهل كل العرب المسؤولين عن هذا التحول؟

كيف خسرنا الهند؟

ترافقت ولادة الهند المستقلة عام 1947 مع اشتداد الصراع في فلسطين، وتمدد العصابات الصهيونية. رفض جواهر لآل نهرو، خليفة غاندي، وأول رئيس وزراء، مقررات لجنة الأمم المتحدة الخاصة بفلسطين (اليونسكوب)، الداعية لتقسيم فلسطين بين العرب واليهود. كما صوتت الهند ضد انضمام «إسرائيل» إلى الأمم المتحدة في عام 1949. قبل عشرين عامًا كان نهرو قد دافع عن الموقف نفسه إلى جانب القوميين العرب في مؤتمر بروكسل عام 1927، الذي تأسست خلاله العصبة المناهضة للإمبريالية والاستعمار. وبدلًا من ذلك اقترحت الهند، بدعم من إيران ويوغسلافيا، إنشاء دولة فيدرالية ذات أغلبية عربية سيادية، ولكن مع الحكم الذاتي لليهود، لكن المقترح تم رفضه.

شكلت الأقلية المسلمة في الهند عنصرًا أساسيًا لسياسة نهرو، لكنها لم تكن وحدها الدافع وراء هذا الانحياز الهندي للجانب العربي، فبداية من الخمسينيات سيتجه نهرو نحو تأسيس خط عدم الانحياز، الذي كانت فيه للرئيس المصري جمال عبد الناصر مكانة رئيسة. ورغم أن الحكومة الهندية قد اعترفت بالدولة العبرية في أيلول 1950، إلا أنها رفضت إقامة علاقات دبلوماسية معها. لكن هذا الدعم الهندي لم يمنع العرب من الوقوف إلى جانب الصين، خلال الحرب الصينية الهندية عام 1962، حول السيطرة على إقليم أكساي تشين الحدودي. وكذلك خلال الحروب الباكستانية الهندية عامي 1965 و1971، حيث ظل الحليف المصري على الحياد، فيما انحازت بقية العواصم العربية إلى جانب إسلام آباد. وفي عام 1969، تمكنت باكستان من ثني دول منظمة المؤتمر الإسلامي، التي ينتمي ثلثها إلى الجامعة العربية، عن قبول الهند في المنظمة، مع أنها تضم عددًا من المسلمين يفوق مسلمي بعض الدول العربية.

دفع ذلك الهند إلى سلوك سياسة مزدوجة تجاه قضية فلسطين، حيث حافظت على دعم واضح للجانب العربي ورفض مطلق للتطبيع مع إسرائيل، إلا أنها فتحت قنوات تواصل مع كيان الاحتلال ضمن علاقات محدودة. فقد اضطرت خلال حربها ضد الصين إلى قبول مساعدة عسكرية قدمها رئيس الوزراء الإسرائيلي بن غوريون. كما استفادت من علاقات في مجال التكنولوجيا الزراعية مع «إسرائيل». لاحقًا ومع وصول أنديرا غاندي إلى السلطة في عام 1966، بدا واضحًا أن الدعم الهندي للعرب مازال قويًا، خاصة خلال حربي 67 و73. كما دعمت الهند بقوة قرار الأمم المتحدة رقم 3379 للعام 1975 الذي يدين الصهيونية باعتبارها شكلًا من أشكال العنصرية كما سمحت لمنظمة التحرير الفلسطينية بفتح مكتب في نيودلهي، وكانت أول دولة غير عربية تمنحها الوضع الدبلوماسي.

لكن التعارض الهندي الإسرائيلي، لم يكن مرتبطًا فقط بدعم نيودلهي للقضية العربية، بل وليد سياقات الحرب الباردة. فالهند وعلى الرغم من عدم انحيازها، حافظت على روابط قوية للغاية مع الاتحاد السوفييتي، الذي وقعت معه معاهدة صداقة وتعاون في عام 1971، في حين كان على «إسرائيل» أن تجد دعمها الأقوى في الولايات المتحدة. في المقابل كانت باكستان في الصف الأمريكي خلال الحرب الباردة، ومارست دورًا حيويًا في كل من حلف بغداد وحلف جنوب وشرق آسيا، باستثناء فترة حكم ذو الفقار علي بوتو (1971 – 1973). ثم أصبحت باكستان بداية من الغزو السوفياتي لأفغانستان جزءًا أساسيًا من المشروع الأمريكي في شبه القارة الهندية، عندما تحولت إلى قاعدة خلفية للجهاد الأفغاني.

بدايةً من عام 1979، بدأت المخابرات المركزية الأمريكية في دعم حشد المجموعات الأفغانية المسلحة وكذلك الشباب من كافة الدولة العربية للقتال ضد السوفييت في أفغانستان. وخلال النصف الأول من ثمانينات القرن العشرين، تحولت مدينة بيشاور الباكستانية إلى قاعدة رئيسية لسديم واسع من المقاتلين العرب والباكستانيين والهنود المسلمين، الأمر الذي خلف بيئة خصبة لانتشار الأفكار الجهادية وأسلمة الصراعات القومية. ضمن هذا السياق، المصطنع أمريكيًا في حيز كبير منه، بدأت تظهر نزعات لتحويل النزاع حول إقليم كشمير بين الهند وباكستان من صراع قومي إلى حرب جهادية. والمفارقة أن الذي سيلعب دورًا كبيرًا لجهة التحريض والدعوة في هذا التحول هو الفلسطيني عبد الله عزام، الذي كان الموجه العقائدي لموجة المجاهدين العرب في الساحة الأفغانية.

بعد سنوات قليلةٍ، وتحديدًا في عام 1988، تحولت كل تلك الخطب التحريضية إلى واقع. مع تراجع جبهة تحرير جامو كشمير (JKLF)، المنظمة الثورية القومية، التي تقاتل منذ السبعينيات لتحرير إقليم كشمير وإقامة دولة مستقلة، ظهرت في الساحة الكشميرية منظمات ذات توجه إسلامي جهادي، بينها حركة المجاهدين، وعسكر طيبة، وجيش محمد، وذلك بدعم قوي من المخابرات الباكستانية، التي كانت إحدى الجهات الراعية للجهاد الأفغاني. ومنذ ذلك الوقت أصبح الصراع دينيًا، بعد أن كان نزاع سيادةٍ. وقد لعبت الدول العربية دورًا بارزًا في دعم المشروع الأمريكي في أفغانستان، وفي دعم باكستان، في مواجهة الهند، لاسيما السعودية ومصر. فيما تزامن ذلك مع تراجع في جذرية الموقف العربي من قضية فلسطين، بعد خروج مصر من الصراع ونفي منظمة التحرير إلى تونس ونشوب الحرب العراقية الإيرانية، ما عمّق من الهيمنة الأمريكية على المنطقة، ومهد الطريق إلى التسوية، التي نضجت في أعقاب حرب الخليج الثانية وسقوط الاتحاد السوفيتي.

ولادة «محور الخير»

في محطات كثيرة، كانت الهند أكثر دعمًا لقضية فلسطين من بعض الدول العربية. في المقابل لم يكن العرب الحليف الوفي للهند، بسبب التحولات الجذرية التي شهدتها مصر بين عهديْ عبد الناصر والسادات، وكذلك لحالة الارتباط العضوي بين أنظمة عربية أخرى والمعسكر الغربي خلال الحرب الباردة والتي دائمًا ما تم تزويرها بشعارات دينية تزعم الانحياز لباكستان المسلمة ضد الهند الهندوسية، رغم أن النظام الهندي كان في تلك الفترة علمانيًا، ويحظى المسلمون فيه بموقع محترم. دفع الوضع الدولي الجديد، الذي ولد في التسعينيات، الهند إلى مراجعة سياساتها الخارجية، نحو مزيد من الاقتراب من الولايات المتحدة في ظل فناء الحلف السوفياتي، وكذلك تطبيع العلاقات مع «إسرائيل» بدايةً من عام 1992، بعد شروع منظمة التحرير في سلوك طريق المفاوضات. بعد أيامٍ قليلة من افتتاح السفارة الإسرائيلية في نيودلهي وقف وزير الدفاع الهندي، شاراد باوار، خطيبًا في البرلمان مبررًا تقارب بلاده مع «إسرائيل» من خلال احتياجات الحرب ضد الإرهاب. كانت نيودلهي في خضم مجابهة الانتفاضة الجهادية المسلحة في كشمير، وقد وجدت نفسها أقرب لإسرائيل في تبني رواية خطر الإرهاب الإسلاموي.

كانت مرحلة ما بعد الانهيار ربيع صعود الهويات الدينية، الذي بدأ باكرًا منذ نهاية السبعينيات وترسخ أكثر خلال حكم الثنائي ريغان – تاتشر، ووصفتهما النيوليبرالية. شهدت التسعينيات نهوضًا واضحًا للقوى الدينية السياسية في جميع أنحاء العالم، ولم يكن العالم العربي ولا الهند بعيدين عن هذا التحول. فقد وصلت التنظيمات والأحزاب القومية واليسارية التقدمية إلى حالة من الترهل التنظيمي والإفلاس الإيديولوجي. في فلسطين لم تنجح هذه التنظيمات في إنجاز التحرير، وفي العالم العربي تحولت من تنظيمات ثورية إلى مجرد ملحقات للنظم الحاكم أو أحزاب حاكمة بيروقراطية ذات نزوع شمولي. وفي الهند بلغت تجربة المؤتمر الوطني مداها الأقصى في عام 1998 عندما ترك الحزب السلطة لخصمه الهندوسي بهاراتيا جاناتا.

حكمَ الحزب اليميني الهندوسي، بين 1998 و2004. وخلال هذه الفترة أظهر تعاطفه العلني تجاه «إسرائيل». لم يكن موقف القوميين الهندوس من إسرائيل جديدًا، ففي عام 1949، وعلى خلفية الموقف الهندي من قرار التقسيم، أعلنت جماعة «هندو ماهاسابها»، الهندوسية عن «تمنياتها الأخوية» تجاه «إسرائيل» واستنكرت «السياسة التمييزية لحكومة نهرو التي ترفض الاعتراف بإسرائيل». بدايةً من عام 1999، أصبح التعاون بين حكومة الكيان والهند أكثر عمقًا، وقد ترافق مع نشوب الحرب الهندية الباكستانية الثالثة، حيث زودت تل أبيب الهند بالسلاح، ولاسيما طائرات الاستطلاع بدون طيار. دفعت الحرب بالهند نحو «إسرائيل» على نحو أكثر قوة، فخلال عامين أصبحت ثاني أكبر مورد للأسلحة إلى الهند، حيث حصلت على تسعة أنظمة صواريخ باراك في شباط 2001، وبلغت التجارة الثنائية بين البلدين مليار دولار، بعد أن كانت أقل بخمس مرات في بداية الثمانينيات. وقد تم تتويج تلك المرحلة بزيارة آرييل شارون إلى نيودلهي عام 2003، في أول زيارة يقوم بها رئيس للحكومة الإسرائيلية للهند والتي تلتها صفقة أنظمة فالكون أواكس للإنذار المبكر الثلاثة التي قدمتها إسرائيل للهند عام 2004، بموافقة أمريكية، لمراقبة خطوط التماس في كشمير.

كان التحالف الأمني الهندي الإسرائيلي، في تلك المرحلة قائمًا على رؤية مشتركة للجماعات الإسلامية، فقد كانت الهند تجابه تمردًا إسلاميًا في كشمير، في المقابل كانت إسرائيل تواجه صعود منظمات المقاومة الفلسطينية الإسلامية، حماس والجهاد الإسلامي، وقد انتعش هذا التحالف على نحو أقوى في سياقات ما بعد 11 سبتمبر برعاية أمريكية. كان هذا التحالف غير نابع من مجرد المصالح، بل حصيلة رؤية إيديولوجية متقاربة بين الهندوسية اليمينية، ممثلةً في بهاراتيا جاناتا، والصهيونية اليمينة، مثلها في ذلك الوقت الليكود. أو ما سماه كريستوف غافريلوت، حينذاك بـ«محور الخير»، في مقابل «محور الشرّ»، الذي مثلته القوى الإسلامية. وهي رؤية رسختها أجواء حرب الحضارات، التي سادت بعد نهاية الحرب الباردة بدعم من نخب ومخابر بحث أمريكية. كما لعب الشتات الهندي في الولايات المتحدة، ولاسيما اللوبي الهندوسي، دورًا في هذا التقارب، من خلال ربط الصلات مع اللوبي المؤيد لإسرائيل في أمريكا. ورغم تأثيرها، لا تحظى هذه العلاقة بالدراسة الكافية حتى اليوم.

تحالف الشعبويّات: «مودي-نتنياهو»

لم يتوقف قطار التحالف الهندي الإسرائيلي، بخروج بهاراتيا جاناتا من السلطة عام 2004. واصلت حكومة التحالف التقدمي الموحد، التي ضمت إلى جانب حزب المؤتمر، أحزاب يسار الوسط تعاونها الأمني مع تل أبيب. في تشرين الثاني 2007 زار وزير الداخلية الإسرائيلي مئير شطريت نيودلهي لتنسيق هذا التعاون، وفي كانون الأول 2009 قام رئيس أركان الجيش الإسرائيلي الجنرال غابي أشكنازي بزيارة إلى الهند، لتعزيز التعاون الدفاعي. وخلال تلك الفترة بدأت الهند، مدفوعة بتصاعد الهجمات التي تنفذها جماعات جهادية، بالعمل على تشكيل جبهة دولية موحدة ضد الإرهاب، وقد وجدت في «إسرائيل» شريكًا وحليفًا، بدعم أمريكي، يتجاوز مسألة الإرهاب نحو دعم الهند كمنافس قريب ومجاور للصين، وربما كبديل للصين في سلاسل التوريد وكمنصة تصنيع منخفضة التكلفة للشركات الإسرائيلية والأمريكية.

بعودة بهاراتيا جاناتا إلى السلطة، من خلال ناريندرا مودي، أصبح التحالف الهندي – الإسرائيلي، أكثر رسوخًا وعلانية. هيمن مودي على السياسة الهندية، من خلال نموذج حكمه الشعبوي، الذي شرع منذ سنوات في تفكيك أسس الديمقراطية الهندية عبر إلغاء الطابع المؤسسي للنظام الذي ولد من دستور عام 1950، وخاصة النظام القضائي. حيث لم تعد المحكمة العليا تعارض السلطة: فهي إما تصدق على القرارات التنفيذية، حتى عندما تكون غير قانونية، أو تمتنع عن إصدار الأحكام، كما حدث في عام 2019، عندما ألغى مودي المادة 370، التي تنص على الحكم الذاتي لولاية جامو وكشمير منذ عام 1950. وكذلك في مسألة تعديل قانون الجنسية، الذي لم يكن قائمًا على الدين أو على أي معيار عرقي، ليصبح اليوم الدين هو معيار الحصول على الجنسية لأول مرة في تاريخ الهند، وذلك لمنع اللاجئين الأفغان والباكستانيين من الحصول على الجنسية. وهو ما يتعارض كليًا مع الدستور الذي يقر مبدأ العلمانية.

يبدو هذا التحول المؤسسي غير ذي صلةٍ بالتحالف مع إسرائيل، إلا أنه في قلب هذا التحالف، حيث لعبت سياسة مودي الشعبوية الهندوسية، دورًا كبيرًا في ترسيخ التحالف في تلاقٍ إيديولوجي وسياسي وربما شخصي، مع سياسة بنيامين نتنياهو، الشعبوية الصهيونية، وحلفائه المتطرفين الدينيين، الذين يشاركون المتطرفين الهندوس الرؤية نفسها للعرب والمسلمين. حيث ما يجمع بين «إسرائيل» والهند اليوم، أكثر من مصالحهما الأمنية ورؤيتهما المشتركة للتهديد الإرهابي، هو نمط «الديمقراطية العرقية»، السائد عندهما، من خلال وجود «أمة أساسية» مهيمنة، وبقية أمم من درجة ثانية تتقاسم فتات المقاعد والمواقع غير المهمة في النظام السياسي. وهو ما يجري تمامًا في الهند وإسرائيل، ويقدم للعالم على أنه نظام ديمقراطي.

أما الوجه الأخر لهذا التحالف فهو المصالح الاقتصادية. اليوم تعد «إسرائيل» ثالث أكبر مورّد للأسلحة إلى الهند. في عام 2017، زار رئيس الوزراء مودي إسرائيل، ليصبح أول زعيم هندي يزور تل أبيب. كما فازت مجموعة «أداني» الهندية بمناقصة خصخصة جزء من ميناء حيفا مقابل مليار دولار، لتسيطر على أحد الموانئ البحرية الرئيسية في إسرائيل، حيث يتحرك حوالي 99٪ من جميع البضائع داخل وخارج البلاد عن طريق البحر. كما اشترت نيودلهي 250 قنبلة سبايس 2000 من رافائيل بالإضافة إلى طائرات استطلاع بدون طيار وصواريخ سبايك الموجهة المضادة للدبابات. والهند أيضًا عضو في المنتدى الرباعي «I2U2» إلى جانب إسرائيل والإمارات العربية المتحدة والولايات المتحدة منذ عام 2022، الذي يعمل على إنشاء «استثمارات مشتركة في مجالات المياه والطاقة والنقل والفضاء والصحة والأمن الغذائي». وقد زادت التجارة بين الهند وإسرائيل من 200 مليون دولار في عام 1992 إلى 7 مليارات دولار في عام 2022، دون اعتبار مشتريات المعدات العسكرية.

«ما يجمع بين «إسرائيل» والهند اليوم، أكثر من مصالحهما الأمنية ورؤيتهما المشتركة للتهديد الإرهابي، هو نمط «الديمقراطية العرقية»، السائد عندهما، من خلال وجود «أمة أساسية» مهيمنة، وبقية أمم من درجة ثانية تتقاسم فتات المقاعد والمواقع غير المهمة في النظام السياسي».

في المقابل يحاول مودي ألا يتماهى تمامًا مع حليفه الإسرائيلي، بالدعوة إلى حل الدولتين، كما دعا رئيس السلطة محمود عباس لزيارة نيودلهي في عام 2017 والحفاظ على نسق تمويل مستمر لوكالة الأمم المتحدة لإغاثة وتشغيل اللاجئين الفلسطينيين. منطلقًا في ذلك من رؤيته للسلطة الفلسطينية كنقيض لبقية الفصائل الإسلامية، التي يعتبرها إرهابية، وأيضًا للحفاظ على صورة الهند في المنطقة العربية، لأسباب جيوسياسية واقتصادية. فقد تم خلال قمة مجموعة العشرين التي استضافتها نيودلهي في أيلول، إطلاق الممر الاقتصادي للهند والشرق الأوسط وأوروبا، والذي يضم الهند والولايات المتحدة والسعودية والإمارات وفرنسا وألمانيا وإيطاليا، حيث سيربط هذا الممر الهند بأوروبا عبر الشرق الأوسط. لذلك تسعى الهند إلى دعم أي صيغ للحلّ، حتى وإن كانت تضمن دولة شكلية للجانب الفلسطيني، لاستدامة هذا المشروع الحيوي بالنسبة لها، والذي يوازي مشروع طريق الحرير الصيني.

تكشف قصة العرب مع الهند، وبينهما الكيان الإسرائيلي، عن وصفة نموذجية للتدمير الذاتي. كيف تخسر حليفًا، ذا قوة ووزن جيوسياسي وديموغرافي واقتصادي، عندما تضع نفسك في خدمة مشروع في جوهره معادٍ تمامًا لمصالحك. قطعًا إن تحولات الهند المعاصرة كانت مزيجًا من صعود الهويات الدينية والقومية المتطرفة وضمور العلمانية من جهة، وتحول جذري عالمي تجلى في نهاية الحرب الباردة، ولكن كان للسياسات العربية دورٌ كبيرٌ في هذا التحول، أولًا من خلال خدمة المشروع الأمريكي الراعي للجهادية المتطرفة خلال الثمانينيات، ثم ثانيًا سياسات الأنظمة الانعزالية في فك ارتباطها بفلسطين والتوجه نحو مصالح ضيقة، تبدو مرحليًا ذات ريع سياسي واقتصادي، لكنها في المدى الطويل ستزيد من تبعيتها وتنزع عنها ما تبقى من قشور السيادة الشكلية. فحليفك، لن يكون حريصًا على مصلحتك أكثر من نفسك .

– حبر – 7eber

مقالات ذات صلة