اليوم التالي الذي لن يأتي

أحمد الجندي

حرير- يتكرّر تعبير “اليوم التالي” في دولة الاحتلال كثيرا، وهو، منذ بدأت أحداث طوفان الأقصى، أحد أكثر التعبيرات تكرارا في خطاب السياسيين والعسكريين والإعلاميين في إسرائيل، لكن هذا التكرار لا يترجَم إلى ترتيباتٍ واضحة معلنة، بل هو مصدر خلاف كبير هناك. ويقدّر إسرائيليون كثيرون أن رئيس حكومة الاحتلال، نتنياهو، لم يعد، منذ بدء “طوفان الأقصى”، قادرا على اتخاذ قراراتٍ استراتيجية طويلة المدى؛ فأغلب قراراته، مثلما تقول المتخصّصة في الشؤون السياسية في صحيفة زمن يسرائيل، طال شنايدر، قرارات قصيرة المدى. وإذا كانت قرارات نتنياهو توصف بهذا الشكل، فلا يعني ذلك أن لدى بقية السياسيين الإسرائيليين رؤية عمّا يمكن أن تكون عليه الأمور بعد الحرب. وطبقا لشنايدر، لا يملك السياسيون الإسرائيليون رؤية تفصيلية لترتيبات اليوم التالي للحرب؛ إذ يتحدّث نتنياهو عن أمورٍ لن تحدُث، فلا حكم لحركة حماس ولا للسلطة الفلسطينية، بل سيطرة إسرائيلية عسكرية أمنية، من دون تفاصيل. كذلك، فإن بني غانتس، المتقدّم في استطلاعات الرأي، يقول كلاما عاما عن هذه الترتيبات، من قبيل “بناء واقع إقليمي مختلف يتضمن إطارا للحلّ في غزّة، وإيجاد هيئات محلية للتعامل مع الاحتياجات المدنية بدعم من الدول العربية المعتدلة”. أما اليمين الديني وبعض قادة الليكود فيدعون إلى سيناريو التهجير وإعادة استيطان غزّة، من دون أن يترجم ذلك كله إلى خطّة يتحرك الجيش الصهيوني على أساسها.

ومن المؤكد أن عدم وجود تصوّر بشأن اليوم التالي يؤثر في عمليات الجيش في غزّة. في هذا السياق، تحدّث الصحافي في “يديعوت أحرونوت”، إيتامار أيخنر، عن تقرير رفعه الجيش الصهيوني إلى المستوى السياسي، يكشف عن حالةٍ من القلق نتيجة غياب الرؤية لدى المسؤولين في الكيان بشأن اليوم التالي، وأن ذلك أدّى إلى استعادة مسؤولي “حماس” المدنيين قدراتهم المدنية، وليس العسكرية، في شمال قطاع غزّة ووسطه، وبدأوا بتقديم خدماتٍ لسكان القطاع. التقرير الذي رفعه الجيش يلقي باللوم على المستوى السياسي في تأخر الإنجاز العسكري واحتمالية الإضرار به، لأن المسؤولين لم يتّخذوا أي قرار يخص اليوم التالي. ويقول التقرير إن سكّان القطاع لا يعرفون سوى “حماس”، وهذا ما لا يريده الكيان. ويشير أيخنر أيضا إلى خطاب كان رفعه 130 من قادة الجيش وضباط الاحتياط يزعمون فيه أن إنجازات الجيش في القطاع لا تترجم إلى استراتيجية، وجاء في ذلك الخطاب: “في الأسابيع الأخيرة، تم تسريح وحدات من الاحتياط وقد تبادرت إلى الأذهان تساؤلات: هل ارتقينا إلى مستوى المهمّة التي تم حشدنا من أجلها؟ وكيف تترجم الإنجازات الكبيرة التي حققناها في ساحة الحرب إلى إنجازات استراتيجية؟ .. للأسف الجواب الواضح أن الجيش والحكومة فشلا في ترجمة الانتصارات التي تحققت بشق الأنفس على المستوى التكتيكي إلى نصر واضح على المستوى الاستراتيجي”.

ويأتي تأجيل مناقشة ترتيبات اليوم التالي ضمن جهود وزراء من اليمين الديني في إطالة أمد الحرب؛ وتحديدا بن غفير وسموتريتش، ومعهما نتنياهو الموقن أن بقاءه رئيسا للوزراء، ونجاته من المحاسبة، يرتبطان بعدم توقف الحرب. وكان الصحافي في “يسرائيل هايوم”، يوآف ليمور، قد تحدّث عن أن ما يقوم به الوزيران من محاولات نسف أيِّ نقاشٍ عن اليوم التالي، يأتي في هذا السياق، وفي إطار رغبتهما في انتهاء الحرب بسيطرة كاملة على قطاع غزّة وتهجير سكانه. ويقارن سموتريتش سيناريو التهجير المقترح في غزّة بالوضع في سورية الذي اضطر فيه خمسة ملايين من سكانها للهجرة إلى دول أوروبية وعربية مختلفة. وينظر أغلب المحلّلين الإسرائيليين لسيناريو التهجير أنه غير ممكن، خصوصاً إذا وضعنا في الاعتبار أن الوضع في سورية انتهى إلى هجرة 20% فقط من السوريين إلى الخارج، وبقي أكثر من 17 مليون سوري في بلدهم، ما يعني، لو طبقنا المعايير نفسها، أن غزّة سيبقى فيها ما يزيد عن 1.7 مليون من أهلها، وبالتالي خطتهما غير قابلة للتنفيذ، وهذا يؤكّد أن التفكير الاستراتيجي ليس ما يحرّك هذين الوزيرين، بل التعصّب الديني المسيحاني الذي يقود إسرائيل كلها إلى الهاوية.

وعلى الرغم من صعوبة تنفيذ هذا المخطّط، واعتباره تصوّرا وهميا أقرب إلى الفانتازيا من التحقق على الأرض، مثلما يقول محرّر شؤون التكنولوجيا في موقع يسرائيل ديفنس، عامي دومبا، فإن رجال الدين اليهود الأكثر تطرّفا يتبنّون هذا الموقف، والذي يعبر عنه بعض من يكتبون في الصحافة منهم؛ مثلما فعل رئيس تحرير موقع القناة السابعة، عمانوئيل شيلوه، والذي دافع عن فكرة تأجيل مناقشة كل ما يتعلق باليوم التالي، إلى ما بعد انتهاء الحرب، بدعوى أن مناقشة ذلك الآن سوف يؤدّي إلى خلافات قد تؤدّي إلى انسحابات من الحكومة، وكبح زخم الحرب الذي لا يريده أحد، لأنه سيُبعد إسرائيل عن الانتصار، وعلى الجميع أن يتعاونوا على “المتفق عليه” وهو حسم الحرب في غزّة.

يأتي رفض كتّاب إسرائيليين كثيرين سيناريو إعادة احتلال غزّة نتيجة التخوّف من تبعاته العسكرية والسياسية والاقتصادية؛ ويرى دومبا أن إسرائيل لا تريد أن تحكم غزّة عسكريا، فضلا عن أنها، من الناحية الاقتصادية، ليست في وضع يتيح لها إعادة إعمار القطاع، ولا أن تحكم مليوني شخص إضافي، ولا تريد تمويل شرطة غزّة، ولا إدارتها، لكنها تريد القضاء على المقاومة واستعادة الأسرى، وأن تكون لها صلاحية الاقتحامات العسكرية، بصورةٍ تتشابه مع ما يحدث في مناطق سيطرة السلطة الفلسطينية في الضفة الغربية، من دون أن تتورّط في إدارة شؤونه المدنية، وأن تغرق في تحمّل أعباء التعليم والتنمية والصحة، وإيجاد فرص عمل من أجل إعاشة 2.2 مليون من سكّان غزّة الفقراء والمعادين لها.

في ظل هذا الوضع، يرى يوآف ليمور أن لدى إسرائيل خيارين؛ أحدهما أن تقوم السلطة الفلسطينية، بعد خضوعها لإصلاحات جذرية كبيرة، مثلما يقول يئير لبيد، وتمويلها بأموال خليجية، بإدارة القطاع. وهذا بالأساس التصوّر الأميركي، الذي قد يشتمل، في نهايته، على اتفاق تطبيع مع السعودية. والآخر أن يدير غزّة فريق خبراء دوليين، لكن تشكيل هذا الفريق يبقى محلّ شك، فضلا عن أن تجربة قوة الأمم المتحدة في جنوب لبنان (يونيفيل) لا تشجّع على السير في هذا الخيار. والخطير هنا، طبقا لرأي ليمور، أن عدم اعتماد إسرائيل تصوّراً عن اليوم التالي سيقود الجيش إلى الخلف، وبدلا من أن ينقلها في الحرب من المرحلة الثالثة إلى الرابعة، سيعود بها من المرحلة الثالثة إلى الثانية.

ومن الواضح أن كل ما يتعلق باليوم التالي يغلب عليه التخبّط والضبابية التي أصبحت السمة الرئيسة للسياسة الإسرائيلية في الأشهر الأربعة الأخيرة. هذا التأخر، والتأجيل المتكرّر لمناقشة الموضوع، يعودان إلى حجم الخلاف الكبير بين الأحزاب داخل الحكومة الإسرائيلية وكذلك قادة الجيش، وأن طرح التصوّر في حد ذاته، أيا كانت صورتُه، سيلزم الكيان الصهيوني وجيشه بما قد لا يستطيع تحقيقه، فيضاف بذلك إلى رصيد الفشل المتكرّر منذ 7 أكتوبر، ومن ثم فالسكوت عنه أفضل، وإن كان هذا السكوت يؤثر سلبا في عمليات الجيش وخططه. وبذلك، تتحوّل فكرة “اليوم التالي” من خطّة عملياتية واضحة، لتصبح مجرّد جزء من حرب نفسية ضد المقاومة وجمهورها، فالتعبير يعني أن العدو الصهيوني لا يرى للحرب إلا نتيجة واحدة محسومة مهما استمرّت.

هكذا إذاً يدور الخلاف بين الإسرائيليين: هل تناقش ترتيبات اليوم التالي، والتي من دونها ستكون تحرّكات الجيش وعملياته في غزّة عشوائية، ولا تقوم على تصوّر واضح يضع الجيش على أساسه الخطط من أجل تحقيق هذه الترتيبات، ومن ثم تتأثر القوات على الأرض سلبا، أم يتحاشون مجرّد فتح الحديث حولها، تحت ضغط سموتريتش وبن غفير، ورضا نتنياهو، حرصا على استمرار الحكومة وعدم نشوب الخلافات، الموجودة والمعلنة أصلا، التي قد تضرّ بالعمليات العسكرية وتحقيق النصر.. وعلى الرغم أن موقف الفريق الأول أكثر عقلانية، ومنسجم مع المنطق، إلا أن الفريقين يتغافلان عن تعثّر العمليات العسكرية الإسرائيلية في غزّة، وأنها ما زالت بعيدة عن الحسم في ظل صمود المقاومة وأدائها واستنزاف القوات الإسرائيلية، وبهذا يبدو الجميع كمن يبيع السمك قبل صيده.

مقالات ذات صلة