الضفة الغربية على خطى قطاع غزّة

أحمد الجندي

حرير- تشهد الضفة الغربية تصاعدا في عدد عمليات المقاومة الفلسطينية ونوعيتها ضد دولة الاحتلال. وخلال الأشهر الستة الماضية، منذ مارس/آذار وحتى نهاية الشهر الماضي (أغسطس/آب)، وقع أكثر من 40 هجوما ضد أهداف إسرائيلية، وتنوعت الهجمات بين إطلاق رصاص، وزرع عبوات ناسفة، وطعن، بمعدل يقارب عمليتين أسبوعيا، وهو معدّل كبير ومقلق لإسرائيل. وتقول خريطة العمليات الفلسطينية في الضفة الغربية، في الفترة المشار إليها، إن أكثر منفذي الهجمات جاؤوا من مدن شمال الضفة؛ وتحديدا جنين ونابلس (15 هجوما)، وتوزعت الباقية على باقي المناطق في الوسط والجنوب: رام الله (7)، أريحا (2)، القدس (10)، بيت لحم (2)، الخليل (7).

وبينما تحاول الأجهزة الأمنية الإسرائيلية إبقاء مصدر الهجمات مقصورا على شمال الضفة وحده، وأن يظل محدودا في المدن الأخرى، تسعى الفصائل الفلسطينية في المقابل إلى توسيع مصدر الهجمات. مع الوضع في الاعتبار خصوصية بعض المناطق؛ فمحافظة رام الله مثلا هي معقل السلطة الرسمي، ولها وجود أمني كبير هناك، وإن لم يمنع ذلك من وقوع عمليات ضد إسرائيل انطلق منفذوها من هناك. وكذلك فإن موقف الفلسطينيين في القدس معقّد إلى حد ما. ومع ذلك، إذا نظرنا إلى بعض مخيماتها؛ كشعفاط وأحياء محيط القدس، نجد كثيرين من جيل الشباب يؤيدون المواجهة المسلحة، لكن قوة الأجهزة الاستخبارية تجعل تأسيس جماعاتٍ لهذا الغرض أمرا صعبا.

ويكتب الصحافي في صحيفة هآرتس، عاموس هرئيل، إن الفصائل الفلسطينية، وفي مقدّمتها حركة حماس، تدرك ما تمر به إسرائيل والسلطة الفلسطينية من ضعف. وعلى هذا الأساس، بلورت استراتيجيتها. ويضيف إن السؤال لدى الأجهزة الأمنية الإسرائيلية لا يدور حول احتمالية اندلاع مواجهة موسّعة ضد “حماس” في القدس وسائر مدن الضفة، بل متى يمكن أن تندلع هذه المواجهة. ويرى الإسرائيليون أن “حماس والجهاد الإسلامي تحاولان إشعال المنطقة وجرّ مزيد من الفلسطينيين إلى دائرة “العنف” من خلال تشجيع مناطق أخرى غير شمال الضفة للمشاركة. وهو أمر سهل في مخيمات اللاجئين، حيث تنتشر العدوى بسهولة، وبهذه الطريقة انتقلت العدوى من مخيمي جنين وعسكر للاجئين إلى مخيم عقبة جبر في أريحا، والهدف أن تكون جغرافيا المواجهات أكبر، ما قد يقود إلى انتفاضة واسعة.

ظرفان تستغلهما فصائل المقاومة لتوسيع جغرافيا العمل المسلح؛ أولهما عدم الاستقرار السياسي بين الحكومة والمعارضة في إسرائيل، والذي أعطى الفرصة للفصائل الفلسطينية، أو الأفراد غير المرتبطين بتنظيمات، لتنفيذ عملياتٍ تسهم أكثر في تأجيج الوضع الإسرائيلي الداخلي، وتؤدّي إلى مزيد من اتهامات المعارضة للحكومة بالفشل في حماية أمن الإسرائيليين. الظرف الثاني ضعف السلطة الفلسطينية في بعض المناطق، فتوسّع المقاومة قاعدتها وتحقق تأييدا قويا فيها، مثلما فعلت “حماس” في الخليل ومعسكرات اللاجئين والقرى الصغيرة التابعة للمدينة، مستغلة سيطرتها على الحركات الطلابية في كل مؤسّسات المنطقة، ما يعني أنها تمكّنت من السيطرة على وعي جيل الشباب فعليا. ومثلما يحدث في نابلس، بوجود نشاط بارز في مخيمات عسكر وبلاطة لحركات شهداء الأقصى وحماس والجهاد الإسلامي، وفيها كذلك ولدت حركة عرين الأسود.

وتسعى إسرائيل بقوة إلى استعادة السلطة سيطرتها المفقودة على بعض المناطق، لتكون حائط صدّ متقدّما يحميها من العمليات الفلسطينية. في هذا السياق، يتحدّث الصحافي الإسرائيلي المتخصص في الشؤون العربية، يوني بن مناحيم، أن إدارة بايدن كانت قد عرضت على الرئيس الفلسطيني محمود عبّاس، خطة أمنية أعدّها الجنرال الأميركي مايك بنزل، تنص على تعيين عدة آلاف من أفراد الأمن الجدد في السلطة الفلسطينية، يضافوا إلى قوات الأمن الموجودة فعليا لديها، والتي تقدّر بنحو 30 ألفا، على أن يتم تدريبهم وتجهيزهم بالأسلحة ونشرهم في مناطق شمال الضفة لمحاربة الجماعات “الإرهابية”. وتهدف الخطة الأميركية إلى القضاء على الجماعات المسلحة التي تحظى بتأييد هائل في الشارع الفلسطيني. لكن عباس، طبقا لبن مناحيم، تجنّب الخطّة، بحجّة أنها ستؤدّي إلى حربٍ أهلية، غير أن مصادر فلسطينية قالت إنها لم تسمع عنها إلا من وسائل الإعلام.

تمثل جنين الخطر الأكبر لإسرائيل، فهي “ملاذ للإرهابيين”، حسب التعريف الإسرائيلي، مشكلتها أن المنظمات الفلسطينية الثلاث الكبيرة (شهداء الأقصى، وحماس، والجهاد الإسلامي) تعمل بشكل مشترك يسمّى “كتيبة جنين” وتلقى تأييدا قويا من الفلسطينيين. ويقول الصحافي الإسرائيلي عوفير شيلح، إن الوضع في شمال الضفة أصبح خطيرا، حيث تؤسّس “حماس” مع باقي الفصائل ما يشبه الحكم الذاتي، وهو وضع يجعل من الصعب السيطرة عليه بطريقةٍ تمنعه من أن يكون منطلقا للهجمات ضد إسرائيل، وفي الوقت نفسه يؤدّي الأمر إلى حيرة الجيش الإسرائيلي وتجنّبه تنفيذ عمليات موسعة في هذه المناطق، لأن عليه بعد أن يدخلها بقوات كبيرة أن يحسب الخطوة التالية؛ فقد يتعرّض لخسائر كبيرة في الأرواح. وهذا يعني أن هذه المناطق تتحوّل تدريجيا إلى ما يشبه قطاع غزة، خصوصا وأن هناك تجربة غير ناجحة لإطلاق صاروخ من جنين على المدن “الإسرائيلية” في يونيو/حزيران الماضي. ويرى شيلح أن إسرائيل تجني حاليا في الضفة كلها ثمار سياستها قصيرة النظر في العقد الأخير، حيث تعمّدت الحكومات المتعاقبة إضعاف السلطة الفلسطينية بشكل ممنهج، وإغلاق المسار السياسي على اعتبار عدم وجود شريك فلسطيني، وتتفق على هذه السياسة تقريبا كل القوى والأحزاب، من دون اختلاف جوهري. ويقوّي ذلك الفصائل الفلسطينية بشكل غير مباشر.

ويقول الإسرائيليون إنهم، بعد عملية اقتحام جنين في مطلع يوليو/تموز الفائت، بدأت السلطة استعادة حكمها هناك، وشرعت في اعتقال المسلحين الذين يعملون ضد إسرائيل، حتى داخل مخيم بلاطة في نابلس. كما أن استمرار السلطة قوية في بعض المناطق، مثل بيت لحم، رغم وجود مخيمات لاجئين تعاني الإهمال والفقر، يجعل هذه المناطق تتجنّب الانضمام للعمل المسلح ضد إسرائيل، لأن السلطة تهتم كثيرا بأن تبقى بيت لحم هادئة، وأن تظل خالية من “الإرهاب”.

ليس تخوّف إسرائيل مقصورا فحسب على عدد العمليات الفلسطينية، بل يرتبط أيضا بتطوّر قدرات المقاومة في الضفة؛ فالعربات المصفّحة التي يفترض أنها توفر الحماية للجنود تحوّلت، كما يقول الإسرائيليون، إلى فخ من فخاخ الموت، وأصبح الجنود مهدّدين بصورة دائمة. ويدور الحديث في إسرائيل عن استخدام المقاومة عبوات ناسفة متطوّرة، وتتهم إيران بإمداد مقاومي الضفة، عبر الحدود الأردنية، بهذه العبوات الأكثر قدرة على القتل والتدمير من التي تصنّع محلياً في الضفة.

وعلى خلفية تصاعد العمليات النوعية من المقاومة ضد الإسرائيليين في مدن الضفة، تتعالى الأصوات داخل الأجهزة الأمنية في إسرائيل عن ضرورة تغيير استراتيجية مواجهة أنشطة حماس والفصائل الأخرى في الضفة، وجعلها تدفع الثمن في غزّة، بسبب العمليات التي تنفّذها، وبسبب محاولاتها إسقاط السلطة الفلسطينية. ويدور حديث في إسرائيل عن تفكير في اغتيال بعض قيادات الحركة في الضفة الغربية، لكن المستهدف، طبقا لقناة كان الإسرائيلية، سيكون بعض قياداتها في الضفة ممن أفرج عنهم ضمن صفقة جلعاد شاليط، شريطة أن ينتقلوا إلى القطاع، وهم يعملون من هناك، ويدفعون نحو تصعيد العمل العسكري ضد إسرائيل، مستفيدين من معرفتهم بالبيئة في مدن الضفة، ويقال إن هؤلاء المستهدفين ليسوا من قيادات الصف الأول في الحركة.

جهود فصائل المقاومة في الضفة، إضافة إلى العمليات الفردية التي لا ينتمي منفّذوها لأيٍّ من الفصائل، جاء في وقت تعيش فيه السلطة وقيادتها مرحلة الشيخوخة. ويتزامن ذلك مع ما تعانيه إسرائيل من أزمة سياسية داخلية مرشّحة للتصعيد، ولا يتوقع حلها قريبا، ومجتمع منقسم، وحكومة منشغلة داخليا بصراعها السياسي مع المعارضة وكل مؤسّسات الدولة، ومنخرطة خارجيا في مباحثاتٍ دبلوماسية من أجل التطبيع مع السعودية، وهذا كله يفرض قيودا على حركتها؛ فعلى الحكومة الإسرائيلية أن تسأل نفسها قبل أي تصرّف ضد المقاومة: هل يمكن تنفيذ عمليات إسرائيلية ضد المقاومة عموما، و”حماس” خصوصا؟ وهل يمكن لعملياتها أن تؤثر على المباحثات الجارية لتطبيع العلاقات مع السعودية؟ وهل يمكن أن تصلح مثل هذه العمليات الوضع الداخلي لنتنياهو، أم تزيده سوءا في ظل احتمالية تعرّض الأمن الداخلي الإسرائيلي للخطر؟ وهل يمكن أن توافق الولايات المتحدة على مثل هذه العمليات؟ وإلى أي مدى يمكن أن يذهب نتنياهو في التصعيد، وكيف سيكون ردّ المقاومة؟ ربما تشير مثل هذه الأسئلة إلى أن الفصائل الفلسطينية ربما تكون قد نجحت في اختيار الوقت المناسب لتوسيع العمليات في الضفة.. مع ذلك، يبقى المشوار طويلا كي تصبح الضفة يوما ما غزّة جديدة.

مقالات ذات صلة