جيوش عدوّة لأوطانها

سمير الزبن

حرير- أقامت الإدارات الاستعمارية أغلب الجيوش العربية، وحتى تلك التي لم تشكّلها مثل الجيش المصري، استطاعت الإدارة الاستعمارية إعادة تشكيله، وتحويله إلى أداة استعمارية. رغم هذه النشأة للجيوش في المنطقة، وُجدت فيها اتجاهاتٌ وشخصياتٌ وطنية، وجرى الرهان على المؤسّسة العسكرية بوصفها الأكثر حداثة والأكثر تماسكاً لتكون أداة التغيير في هذه البلدان.

ما أن شهدت الدول العربية استقلالها عن الاستعمار، وأصبحت دولاً وطنية مستقلة، حتى دخل الجيش على السياسة من خلال انقلابات كثيرة شهدتها دول المنطقة، وضعت العسكريين على رأس السلطة. ورغم مآخذ كثيرة يمكن سوقها على الانقلابات العسكرية في البلدان العربية، ودورها في تعطيل المسار الطبيعي للتطور لهذه البلدان، خصوصا المسار الديمقراطي، إلا أن الهدف المعلن لهذه الانقلابات التي سُميت “ثورات” كان الخروج بالبلد من الأزمات التي عاشها عشية أي انقلاب. وهناك انقلابات قد أحدثت تطوراتٍ كبيرةً وانعطافية في البلدان التي جرت فيها، وهذا ينطلق على انقلاب 1952 في مصر، الذي أحدث تغيرات هائلة في المجتمع المصري في السنوات اللاحقة.

بعد موجة الانقلابات التي شهدتها الدول العربية ما بين خمسينيات القرن المنصرم وسبعينياته، تحت ذرائع شتى ومن أجل المستقبل الأفضل لهذه الدول، شهدت هذه الدول استقراراً كبيراً، وغابت الانقلابات العسكرية عن هذه الدول، وأمسكت السلطات القائمة بالمؤسّسة العسكرية بأشكال مختلفة. وعلى الرغم من اختلاف هذه الأشكال، فإن الشكل الأساسي للإمساك، كان إخصاء هذه الجيوش، وإضعافها أكثر مما هي ضعيفة، وشلّ قدراتها وتحطيم بنيتها الهرمية ومسؤولياتها العمودية. وعنت هذه الإجراءات فعلياً، تصفية هذه الجيوش، لا من الشخصيات الوطنية فحسب، بل وتصفيتها من أي شخصياتٍ طموحة، أو شخصياتٍ يمكن أن تشكل خطراً على الشخص القابع على رأس السلطة.

لم يكن الاستقرار في هذه البلدان دليل عافية، لا على المجتمعات ولا على المؤسّسة العسكرية. وعلى عكس الطبيعي، حيث يتم استثمار الاستقرار من أجل إنجاز مهمات وطنية وتحقيق مهام تطوير وطنية، تنقل المجتمع إلى عتبةٍ جديدةٍ تُحسّن أوضاعه. لقد تم توظيف هذا الاستقرار لخدمة مزيد من الاختراق للمجتمعات المحلية، وتحطيم كل المؤسّسات وربطها بالرجل الأول في الدولة. وكانت الوسيلة الرئيسية للرؤساء الذين وصلوا إلى السلطة عن طريق الانقلاب الاعتماد على الأجهزة الأمنية التي تكمن مهمتها في حماية النظام وتخويف الناس. ولم تتحكّم هذه الأجهزة بالمؤسّسات والإدارات المدنية في المجتمع، مثل الوزارات والإدارات البلدية فحسب، بل تم منح هذه الأجهزة الصلاحيات للتحكّم بالجيش ذاته، الذي لم يعد ممسوكاً من قياداته العسكرية، فقد نُزعت الصلاحيات القيادية من أركان هذه الجيوش، وبات وجودها شكلياً، فلا تستطيع تحريك أيٍّ من الوحدات العسكرية، التي باتت محكومة بشكل صارم من الرجل الأول، مع منح الأجهزة الأمنية صلاحية مراقبتها وشلّ تراتبيتها الهرمية، وربطها فقط بالرجل الأول عبر أتباعه المقرّبين والمخلصين.

من جهة أخرى، كان الاستقرار مدخلاً للفساد، الذي لم يكن موضوعياً، بقدر ما كان فسادا مصنوعاً من السلطة ذاتها، والذي جرى استعماله لمزيد من تشديد القبضة على المجتمع والمؤسّسات والهيئات الرسمية والخاصة. وبالطبع، كانت مؤسّسة الجيش واحدة من هذه المؤسّسات التي تم إفسادها في زمن الاستقرار، سواء من خلال إدارة الجيش ذاته مؤسسات اقتصادية في البلد، أو من خلال تعميم الرشاوى داخل وحداته، خصوصا في الدول التي فيها تجنيد إجباري. ولم تنجُ المؤسسة العسكرية من تعميم الفساد الذي اخترق كل شيء، وأصبح الفساد يوحد العاملين في مؤسّسات الدولة، وبات هناك اقتصاد خلفي يوزّع جزءاً أساسياً من ثروة المجتمع من خلال قنوات الفساد الخلفية.

بذلك لم يعد للجيش سوى مهمات داخلية، ولم يعد دوره الدفاع عن البلاد في مواجهة الأخطار الخارجية، بل بات فاسداً وحامياً صغيراً لرأس النظام، وأداة قمعه الاحتياطية للمواطنين، عندما لا تكفي أجهزة الأمن والمخابرات لإنجاز مهمتها. وبذلك، فقد الجيش في هذه الدول وظيفته الرئيسية، وتحوّل إلى جزء من عصابة تنهب بلدانها.

عندما انطلقت احتجاجات الربيع العربي، كان الفساد قد اخترق المجتمعات والمؤسّسات عميقاً، وأصبح المواطنون يقبعون تحت ظلم لم يعد يحتمل، ولم يعد من الممكن الاستمرار في العيش بالطريقة السابقة، وهذا ما أنضج الظروف لانفجار الثورات العربية، التي شهدناها طوال العقد المنصرم. وكان اختبار الجيوش مخزياً في ثلاثة بلدان على الأقل، فلم تتورع عن قصف شعبها، بكل أنواع السلاح، ولم نجد مؤسّسة عسكرية تقوم بدورها أو تدافع عن مصالحها، لأنها أصبحت من زمن طويل لعبة بيد الرجل الأول. وخوفاً من هذه المؤسّسة، لم يتورّع الرئيس الليبي السابق معمّر القذافي عن تفكيكها والغائها، واستبدالها بعصابة شخصية لحمايته بكل معنى الكلمة، ولم يكن لها من مهمة بعد الثورة الليبية سوى قتل الثائرين. وكذلك الحال في اليمن، عندما لم يتورّع الرئيس علي عبد الله صالح عن استخدام الجيش ضد شعبه، وحتى الاستعانة بأعدائه للانتقام من شعبه. أما سورية بشار الأسد فلم يترُك جيشها الممانع سلاحاً لم يستخدمه في مواجهة شعبه، من الرصاصة، إلى المدفع، إلى الطائرة، إلى صواريخ سكود، وصولاً إلى السلاح الكيميائي.

لقد فاقت وحشية هذه الجيوش في مواجهة شعوبها وحشية أي قوة استعمارية أو محتلة، وبذلك ظهر واضحاً أن هذه الجيوش بُنيت على أساس معاداة الشعب، وليس على أساس حمايته والدفاع عنه، وليس هناك أي قيمة للبشر عند هذه الجيوش. وهذه النظرة التي أملاها أسيادهم عليها، جعلها عدوّة لشعوبها بكل معنى الكلمة، لا يهمها تدمير أوطانها وقتل مواطنيها بوصفهم أعداء، وذلك كله من أجل الاحتفاظ بالسلطة، وهذا الدرس من الجيوش المعادية لأوطانها والذي شاهدناه في عدة بلدان عربية، نشاهده اليوم، يعيد نفسه ببثّ مباشر من السودان وبنكهة أفريقية جديدة.

مقالات ذات صلة