شاكيرا والوزيرة الألمانية بين الفنّ والسياسة

حسان الأسود

حرير- استقالت وزيرة الدفاع الألمانية كريستينا لامبريشت يوم 16 يناير/ كانون الثاني الحالي من منصبها بعد ضغوط كبيرة تعرّضت لها من أحزاب المعارضة، وخصوصا حزب الاتحاد المسيحي الديمقراطي (CDU). وكانت لامبريشت قد شغلت قبل ذلك منصب وزيرة العدل في حكومة المستشارة أنجيلا ميركل، وعدّة مناصب وزارية بالوكالة، ووظائف إدارية أخرى رفيعة المستوى. كما شاركت من خلال شغلها حقيبة الدفاع في حكومة المستشار الألماني أولاف شولتز، المشكّلة من تحالف ثلاثي يضمّ حزب الخضر (Die Grünen) والحزب الديمقراطي الحر (FDP)، إضافة، بالطبع، إلى حزبه المسمّى الحزب الديمقراطي الاجتماعي الألماني (SPD). وقد أثنى المستشار على أداء لامبريشت، وشكرها على إخلاصها في العمل، رغم انتقاداتٍ كثيرة وجّهت لها، لأسباب تبدو لأوّل وهلة أقرب إلى المناكفة السياسية منها إلى الحجج الدامغة على التقصير بأداء الواجبات. ولدت لامبريشت عام 1965 في مدينة مانهايم التابعة لولاية بادن فورتمبيرغ جنوب غرب ألمانيا، درست الحقوق وعملت محامية عدّة أعوام قبل انخراطها كليًّا في العمل السياسي.

تصغرُ شاكيرا المولودة عام 1977 لأب أميركي من أصول لبنانية وأمٍّ كولومبيّة لامبريشت بـ12 عاماً. وقد انخرطت في الشأن العام من خلال الفنّ، فابتدعت أسلوبها الخاص الذي لفت انتباه النقّاد، وطبقتْ شهرتُها الآفاق، حتى أنّ الروائي غابرييل غارسيا ماركيز كتب عنها: “ابتدعت شاكيرا نغمتها الخاصّة في الموسيقى، والتي لا تشبهها أيّة نغمة، فهي تُغنّي وترقصُ بإحساس بريء لا يُدانيها فيه أحد، متجاوزة الأجيال المختلفة عابرة للفروق بينها”. وشاكيرا لم تدرُس الحقوق، ولم تعمل في السياسة، بل كانت من عشّاق نادي برشلونة الإسباني، وارتبطت بنجمه لاعب قلب الدفاع، جيرار بيكه، بعلاقة زواج دامت 12 عاماً، أنجبا خلالها ولدين. لكنّ الزوجين انفصلا، أخيرا، لأسباب غير معروفة بدقّة، وكان من آثار طلاقهما اشتعالُ حربٍ إعلاميّة بينهما كانت ساحتها وسائل الإعلام ومجال الفنّ أيضاً. دخلت ساحةَ الحرب هذه شركاتٌ عالميّة مثل كاسيو اليابانية المصنّعة للساعات المعروفة من خلال عقد وقّعه معها بيكه، ردًّا على شاكيرا التي وصفت نفسها بساعة روليكس الثمينة مقارنة بصديقته الجديدة التي شبّهتها بساعة كاسيو.

لا تنحاز هذه السطور لأيّ من السيدتين، السياسيّة والفنّانة، ولا تُحاول إطلاق أحكامِ قيمة عليهما، بل تحاول عقد مقارنة بين مجالين جدّ مختلفين من الفضاء العمومي الذي ينشغل فيه البشر جميعاً بشكلٍ أو بآخر، فالسياسة تحكمُ البشر، وتدخل في صُلبِ عيشهم، وتمسّ حياتهم رغم محاولة كثيرين منهم الابتعاد عنها. كذلك الفنُّ والرياضةُ، وهما في النهاية يؤدّيان وظائف سياسيّة إضافة إلى جوهر محتواهما المختلف. يشترك الفنّ مع الرياضة في جوهر الترفيه، كما يشتركان في رسالة التضامن البشري أيضاً. يختلفان عن بعضهما وعن السياسة في خصائص تميّز كلّ مجالٍ عن الآخر، من حيثُ الدور والوظيفة والأهداف، لكنهما يتفقان مع السياسة في أنّهم جميعاً يدورون في فلك الناس، عموم الناس، أغنياء وفقراء، مثقفين وغير مثقفين، حكامًا ومحكومين، أو الناسُ يدورون في فلكهم، خصوصا بعد التطوّر الرهيب في وسائل الإعلام ووسائل التواصل.

لا يحظى السياسيوّن عادة بالشهرة على صعيدٍ عالميّ، ويندرُ أن يشتهر زعيمٌ سياسيٌّ بشكل كبير. فقط أولئك الذين سمحت لهم ظروفٌ استثنائيّةُ ذلك. يُذكرُ أنّ رئيس وزراء بريطانيا العظمى وينستون تشرشل قد انتبه مرّة في القطار لرجلٍ كهلٍ يجلس قبالته محدّقاً به، وبعد ترددٍ سأله الكهلُ: هل أنت السيد تشرشل الذي كان معي عندما كنّا أطفالاً في مدرسة “هاو” الابتدائيّة؟ فأجاب تشرشل نعم، فتشجّع الكهلُ وسأله عن أحواله وماذا يعمل، فأجابه تشرشل مُلاطفاً: أعمل أحياناً رئيساً لحكومة جلالة الملكة إليزابيث، فتأفّف الكهل من المحادثة وسلّم على تشرشل وغادر مكانه قائلاً بهمسٍ: “لا يزالُ كذّاباً كما كان في طفولته”. من يعرفُ مثلاً اسم رئيس الصين الحالي الذي يحكمُ بلاداً بدأت تنافسُ على زعامة العالم اقتصادياً؟ من يعرفُ اسم ملك السويد أو رئيسة وزراء أستراليا أو رئيس غانا أو السلفادور؟ ومن كان سيحفظ اسم غورباتشوف لولا ارتباطه بالإصلاحات والانفتاح الذي أعقبهما انهيارُ الاتحاد السوفييتي؟ بينما لم يبقَ إنسانٌ في العالم لم يسمع بأسطورة كرة القدم بيليه، أو بأسطورتي الغناء ألفيس بريسلي ومايكل جاكسون، أو بالممثلة أنجلينا جولي أو بالمغنية الشهيرة شاكيرا؟

ولكن لماذا هذا التفاوت الكبير بين شهرة أشخاصٍ أفنوا حياتهم في الدراسة والتحصيل العلمي مثل مخترع البنسلين، أو في السياسة مثل لامبريشت، أو في الدفاع عن حقوق الإنسان مثل البحريني عبد الهادي الخواجة، وأولئك الذين حباهم الله صوتاً جميلاً مثل أم كلثوم، أو قواماً رشيقاً مثل مونيكا بيلوتشي، أو مهاراتٍ جسدية رفيعةٍ مثل ميسّي أو رونالدو؟ هل لأنّ الناس أميلُ إلى الهروب من واقعهم القاسي فيفضّلون الولوج إلى مساحات المتعة بدل إرهاق أنفسهم بقضايا معقّدة، أهو هروبٌ من الحياة المثقلة بالآلام إلى ساحاتٍ لا تحتاج أكثر من تحريك الغرائز، وهل مردّ ذلك أنّ طبيعة البشر تستسهل المتعة على التفكير، أم لأنّ الناس لا وقت لديها لمتابعة السياسة أو الإبداعات العلمية ما دامت منتجاتها ستصل إليها في النهاية بشكل خدمات أو تسهيلات أو موادّ قابلة للاستخدام؟ وهل يصدُق هذا الطرح على جميع أنواع الفنون والرياضات، أم إنّ هناك بعضها الذي لا شعبيّة كبيرة له بحكم طبيعته؟ من يتابع، على سبيل المثال، حفلات الأوبرا أو مسابقات التنس أو الغولف في العالم، وكم نسبتهم مقارنة بمتابعي المطربين أو لاعبي كرة القدم؟

قد لا يكون من الطبيعي المقارنة بين ما بذلته لامبريشت من جهودٍ في سبيل تحصيلها العلمي، خصوصا أنّ دراسة الحقوق من أصعب الدراسات في الدول الديمقراطية التي تحترم القانون والتي فيها استقلال حقيقي للقضاء، وليس كلّ خرّيج حقوق يمكنه العمل في المحاماة أيضاً، وجهود شاكيرا في الوصول إلى النجوميّة والعالميّة، خصوصا أنّ ظروف المنافسة هائلة في هذا المجال، ولا يمكن مقارنتها بظروف المنافسة بين المحامين أو السياسيين المحليين. ثمّ لا يغيب عن البال أنّ ما يؤدّيه السياسيون في عملهم عادة يخصّ فئاتٍ محدودة من البشر، وما يقدّمه المحامون أو الأطباء أو المدرّسون من خدماتٍ يمسّ أشخاصاً أو مجموعات قليلة من الناس، على العكس مما يفعله الفنانون أو الرياضيون، فهم يتكلّمون لغاتٍ عالميةً يفهمها غالبية سكّان المعمورة. قد يكون في ذلك بعضُ العزاء لهؤلاء وبعض التبرير لأولئك، وفي النهاية، هذه هي الحياة.

مقالات ذات صلة