عبث جيني في العقل الجمعي العربي

حلمي الأسمر

حرير- حينما يفرح بعض العرب، يطلقون الرصاص في الهواء، ابتهاجا بمولد طفل، أو نجاح خرّيج، أو ختان طفل، وقد يطلقون الرصاص أيضا لكسر الملل.

في فلسطين، حيث لا يملك الشباب اليافع السلاح، يقاوم الاحتلال بإطلاق الألعاب النارية .. ومفرقعات الصوت، خصوصا حين تهاجم قطعان المستعمرين الأقصى المبارك، في موسم الاقتحامات المكثفة بين أيدي “الأعياد اليهودية” الممتدة مما يسمّى رأس السنة العبرية وصولا إلى “يوم الغفران”.

المشهد لمن يراقب عن كثب يحمله إلى جو من الفانتازيا غير المفهومة، بين لعب العربي وجد الفلسطيني، وهو يصلُح مدخلا لحديثنا عن ظاهرة جديدة وصادمة في بلادنا العربية، حين عمدت بعض الأنظمة لعملية “جريئة” تستهدف إجراء تعديل جيني في العقل الجمعي العربي، عبر تحويل العدو الأزلي الصهيوني إلى “شريكٍ” وحليف، و”أخ” حميم علنيا، في المخيال العربي بعد عقود من خطاب علني وضعه في خانة “الآخر” المرفوض، نقول “علنيا” فيما كانت المياه تجري من تحت فراش الجماهير المخدوعة، عبر نسج علاقاتٍ حميمةٍ سرّية بين هذا العدو و”أحبابه” من رجالات النظام العربي الرسمي وزعاماته.

لن يصبح العدو حبيبا أو صديقا أو شريكا

عملية “التعديل أو العبث الجيني” ليست مأمونة النتائج، حتى في الحقل العلمي، فما بالك إذا استهدف هذا التعديل إعادة تشكيل العقل الجمعي العربي؟ على المدى القصير، أبرز نتائج هذه المحاولة، ثمّة صدمةٌ أصابت سواد الجمهور العربي، فهو الآن في مرحلة الانشداه و”فتح الفم” على مصراعيه، ويحاول أن يعيد ترتيب أولوياته، خصوصا وأن هذه العملية المعقدة ترافقت مع مفاعيل سلسلة أزمات وضغوط اقتصادية وصحية واجتماعية، مصحوبة بتغيّراتٍ جذريةٍ في المشهد الدولي، حرّكتها الحرب الروسية الأوكرانية، وذيول الجائحة التي لم يُغلق ملفها بعد. وفي المحصلة، يمكن القول إن العقل الجمعي العربي اليوم يعيش مرحلة إعادة تموضع، وتتضمّن في ما تتضمّنه وضع قائمة جديدة بأولوياته، وترسيم حدود جديدة تفصل بين ما هو عدو وصديق، بعد محاولات إعادة خلط المفاهيم والمصطلحات التي استقرّت في ذهنه عقودا خلت. وعلى المدى البعيد، أكاد أجزم أن محاولة التعديل أو العبث الجيني التي تعرّض لها العقل العربي لن يُكتب لها النجاح، ولن يصبح العدو حبيبا أو صديقا أو شريكا، والصخرة الكأداء التي تحول دون مرور هذا التعديل هي آيات القرآن الكريم التي صنّفت “بني إسرائيل” في خانة “المغضوب عليهم”. ولهذا لا سبيل إلى ليّ عنق هذه الحقيقة إلا بإزالة كل ما يتعلق بالمغضوب عليهم من آيات القرآن الكريم، وهو أمرٌ محسومٌ ومحكومٌ بالفشل، حتى مع المحاولات المحمومة بملاحقة دور تحفيظ القرآن الكريم، و”تطوير” المناهج الدراسية بحذف كل ما يتعلق ببني إسرائيل والجهاد والمفاصلة بين الكفر والإيمان. ويكفي أن نتذكّر أن آية “المغضوب عليهم” تتكرّر في اليوم الواحد ملايين ملايين المرات في صلوات المؤمنين الذين يقرأون الفاتحة في كل ركعة من ركعات الصلوات الخمس اليومية.

هذا على الصعيد العربي العام، أما على الصعيد الفلسطيني فللأمر خصوصية معينة، لأكثر من سبب. أولا، يواجه الفلسطيني يوميا برؤية الجانب المتوحش المجرم من ذلك “الشريك” الحميم الذي تفتح له أبواب القصور الرئاسية في بلاد العرب، لذلك ليس لديه الوقت أصلا ليصدّق فكرة الشراكة (ما بالك بالمحبّة!) مع مجرم قاتل، يتمنطق مدنيوه قبل عسكرييه بسلاح مصوّب إلى صدور النساء والأطفال والشيوخ والشباب، ناهيك بعملية اقترافٍ منظمّةٍ معقدةٍ ومستمرّة من الجرائم تستهدف كل ما هو فلسطيني، شجرا أو حجرا أو ماءً أو هواءً. لهذا، أي محاولة لعملية تعديل جيني في العقل الجمعي الفلسطيني مثيرةٌ للسخرية، حتى مع وجود طبقة من وكلاء الاحتلال الذين يعينونه في إخضاع الشعب الثائر، عبر أبعد مما يُدعى التنسيق الأمني، فثمّة طبقة من أصحاب المصالح بات وجودها مرتبطا بشكل وثيق بديمومة وجود الاحتلال.

أي محاولة لعملية تعديل جيني في العقل الجمعي الفلسطيني مثيرةٌ للسخرية

ثانيا، لو نحّينا قليلا الجيل الذي تجاوز في عمره الثلاثينيات وما فوقها، ونظرنا إلى طبقة الشباب العشريني، سنجد، في العموم، أن هناك طبقة جديدة من أبناء الشعب الفلسطيني لا تحلم بأن تكون لا صانع محتوى رقمي، ولا مهندسا أو طبيبا، أو مطربا أو ممثلا مشهورا، ولا غيرها من المهن التي يحلُم بها جيل الشباب العربي. جيل يحلم بشيءٍ واحد فقط: الشهادة! وتلك علامة فارقة في حياة الشعب الفلسطيني، ومنعطفٌ تاريخيٌّ بكل المقاييس، خصوصا وأن هذه الطبقة تقوم اليوم بما يشبه الانتفاض والانقضاض والثورة على سلطة الاحتلال ومن يتعاون معها. لهذا ليست حكاية التعديل أو العبث الجيني في العقل الجمعي لهؤلاء على الطاولة أصلا، بل التعديل الحقيقي الذي أصاب سلوك هؤلاء هو إبداعهم في استيلاد وسائل مقاومة جديدة، ليست أولاها مفرقعات الألعاب، ولا آخرها استعمال السلاح بشكل مباشر.

اليوم، نعيش حقبة هذا العبث الجيني في العقل الجمعي العربي، وستكون له نتائج مفاجئة، عربيا في العموم، وفلسطينيا في الخصوص. وهنا لا بد من إزجاء “شكر” خاص للاحتلال الصهيوني لفلسطين، الذي قام من قبل بحراسة “الوطنية الفلسطينية” عبر إرهابه اللامحدود، ومنع بتعصّبه وتطرّفه المتوحش تنفيذ كل الحلول الاستسلامية التفريطية للقضية الفلسطينية، وها هو اليوم “ينجح” في إنتاج جيل فلسطيني شابٍّ يحلم بالشهادة، كما يحلم أي مراهق “عادي” بأن يصبح مطربا مشهورا، وهذا الجيل تحديدا هو ما سيصنع الفرق، خصوصا وأن المكان الأثير لتجمّعه هو صلاة الفجر، إن لم يتمكّن من إقامتها في الأقصى المبارك، ففي مساجد فلسطين المزروعة في طول البلاد وعرضها.

مقالات ذات صلة