من خذل قائد “فاغنر”؟

أحمد رحال

حرير- عندما قرّر مؤسّس شركة فاغنر يفغيني بريغوجين وضع اليد على بعض حقول النفط السورية الأساسية في شرقي سورية (حقول العمر والشاعر وحيان)، وتقاسم وارداتها مع نظام دمشق، ذهب لينسّق الأمر مع رئاسة الأركان الروسية في موسكو. ومن ثم رتب الملامح النهائية للعملية العسكرية مع غرفة عمليات قاعدة حميميم الروسية على الساحل السوري، وفيها (كما قال بريغوجين أخيرا)، حصل على وعد بتشغيل منظومات الدفاع الجوي، وبمظلة جوية تتمثل بطائرتين من نوع سوخوي – 34 تغطّيان سماء منطقة العمليات، لكن التفاهمات الأميركية الروسية قضت بوقف قاعدة حميميم لكل ما وعدت به، بعدما كشفت قوات التحالف الدولي العاملة في شرقي الفرات تحرّكات مريبة ومجهولة، وأنكرت موسكو علاقتها بالأمر، فكانت مجزرة كبرى ارتكبتها طائرات الأميركان وحوّاماتهم بحقّ عناصر “فاغنر” القائمين بالهجوم، ليس فقط لأن التغطية الجوية الروسية غابت عن مقاتلي مجموعات “فاغنر”، بل لأن قاعدة حميميم (وبأوامر من وزير الدفاع شويغو)، امتنعت عن إبلاغ “فاغنر” بكل تلك التطورات وتركته فريسة للأميركيين وامتنعت عن تحذيره.

يروي بريغوجين الحادثة السابقة، أخيرا، بألم وغضبٍ كثيرين، متحدثاً عن إحدى الطعنات التي تلقاها من وزير الدفاع الروسي شويغو. وهذا يعكس الكم الهائل من التراكمات التي عقّدت العلاقة، وأوجدت صراعاً مفتوحاً ما بين شركة فاغنر عبر مؤسّسها بريغوجين ووزارة الدفاع (ورئيس أركانها غيراسيموف)، خصوصا بعد الزج بقوات فاغنر في مجريات الحرب الأوكرانية، وفيها خرج أكثر من مرّة قائد “فاغنر” ليتحدّث عن الفساد وعن اللصوصية وعن سرقة أموال الدعم اللوجيستي والمشاريع التدريبية وعن بيع جنرالات وزارة الدفاع الروسية، وخصوصا المقرّبين من شويغو، الأسلحة. وقال حينها إن معظم التقارير العسكرية والاستخباراتية التي تُرفع إلى الرئيس بوتين لا تتضمّن حقيقة الواقع الميداني، بل كتب فيها ما يحبّ بوتين أن يسمعه. وبدأت الخلافات تتسع بين قيادة فاغنر ووزارة الدفاع، حتى بعدما استطاعت “فاغنر”، وبحرفيتها القتالية، حسم معركة باخموت في أوكرانيا لصالح روسيا. وفي المعارك التالية، قيل إنه تم زجّ مجموعات من “فاغنر” في مواقع خطيرة وحسّاسة، وتُركت بدون ذخائر وبدون إمدادات. وشعر بريغوجين كأنه يتجرّع كأس السم الذي شربه سابقاً في شرقي سورية مرّة أخرى، فقرّر الانسحاب من جبهات القتال في أوكرانيا والعودة إلى الخلف للتفرّغ لمعركته الكبرى مع وزير الدفاع الروسي ورئيس أركانه.

كانت الشعرة التي قصمت ظهر البعير رفض قيادة “فاغنر” توقيع عقود العمل لعناصرها مع وزارة الدفاع الروسية، واعتبر بريغوجين التوقيع بمثابة “طريق العار”، فكان الهجوم الجوي الذي تعرّضت له قواته داخل الأراضي الأوكرانية، ونفته وزارة الدفاع الروسية، لكن هناك من سرّب أن قرار الهجوم اتّخذ سرّاً في غرفة عمليات الدفاع الروسية، لكن قائد القوات الروسية في سورية، الجنرال سيرغي سورافيكين، وقائد القوات المحمولة جوّاً في الجيش الروسي، الجنرال ميخائيل تيبلينسكي، أبلغا بريغوجين بخطّة شويغو بقصف قوات فاغنر في ميادين أوكرانيا، فموّهت “فاغنر” المنطقة، وغادرت إلى مواقع أخرى ولم تتضرّر من القصف، ومن ثم خرج بريغوجين ليتحدّث عن خسائر كبيرة في صفوف قواته، ويعلن الحرب على شويغو وغيراسيموف، بعدما أصدر أوامره بسحب قواته إلى الداخل الروسي والزحف نحو موسكو، بما سماها “طريق العدالة”، وأطلق آخر سهامه باتجاه القيادة العسكرية عندما اعتبر أن قرار بوتين دخول الحرب في أوكرانيا بُني أساساً على معلوماتٍ خاطئةٍ من جنرالات وزارة الدفاع، وكانت غاية هؤلاء من كل الحرب الأوكرانية حصول شويغو وجنرالاته على رتب ومناصب أعلى، وأن تلك التقارير دمّرت الجيش الروسي خدمة لمنافعهم ومكاسبهم الخاصة.

اللافت في خروج “فاغنر” من جبهات أوكرانيا إلى مقاطعة روستوف أنه جرى بسلاسة، ومن دون أي إزعاج من قوات حرس الحدود الروسية وبقية القوات، رغم علم الجميع بنوايا “فاغنر” وأغراضها من الانسحاب للداخل الروسي، وكأن القيادة الروسية أرادت تجنيب جبهات أوكرانيا فصلا جديدا من الخلافات والنكسات التي ستنعكس سوءاً على معنويات الجنود الروس المنهارة أصلاً. وحاولت القيادة الروسية الضغط على “فاغنر” من خلال نائب وزير الدفاع ونائب رئيس العمليات بالجيش الروسي عبر اجتماع سريع عقد مع بريغوجين في مدينة روستوف نادونا، لكن المهمة فشلت، وأصر قائد “فاغنر” على الزحف نحو العاصمة موسكو، لتخليص البلاد من فساد وزير الدفاع ورئيس أركانه الذي فرّ من روسستوف باتجاه العاصمة.

السيطرة على مقاطعة روستوف ومقرّاتها العسكرية، خصوصا مقر القيادة الجنوبية للبلاد ومقر قيادة العمليات العسكرية في أوكرانيا والمطار العسكري الأضخم الذي يستخدم لدعم العمليات البرّية على الجبهات الأوكرانية، كلها أهداف حققها بريغوجين، وانتقل عبر أرتال من “فاغنر” إلى مقاطعتي فورونيج وليسكي، ووصل إلى مسافات قريبة من موسكو، حتى بعدما قام الطيران وعلى دفعات بمحاولة عرقلة تقدم “فاغنر” إن كان عبر الحوامات التي قيل إن “فاغنر” أسقطت واحدة أو اثنتين منها أو عبر قيام القوى الجوية الروسية بتدمير محطات الوقود في مقاطعة فورونيج لمنع “فاغنر” من التزود بالوقود ومتابعة الزحف نحو موسكو.

كانت سهولة تقدّم قوات “فاغنر” نحو موسكو أمراً مستغرباً، خصوصا بعدما وصفت تحرّكاتها بأنها تمرّد عسكري، وأن قائدها خائن للوطن، وهذا يعكس أحد أمرين: إما أن الأمن والدفاع داخل روسيا أصبح هشّاً ضعيفاً أو أن قيادة بوتين قواته أصبحت موضع شك، خصوصا عندما طلب الرئيس الروسي بوتين، بوصفه قائدا للقوات المسلحة، من رئيس الشيشان قديروف إرسال قواته لإخراج “فاغنر” من مقاطعة روستوف، ولم يطلب الأمر نفسه من الجيش الروسي، فوضع الجميع أمام حيرة؟ هل فقد بوتين أو شكّ بقيادته الجيش الروسي، وخشي الرفض من بعض جنرالاته، أم أنه حاول منع سفك دماء وعمليات قتل وصراع ما بين مكونات الجيش الروسي؟

ما عجزت عنه الاتصالات والضغوط التي تلقّاها بريغوجين لوقف الزحف نحو موسكو حققه الرئيس البيلاروسي لوكاشينكو، المقرّب من بوتين، والمرتبط بعلاقة طيبة مع بريغوجين، الذي استطاع، وعبر بنود خمسة معلنة وأخرى مخفية، وقف تقدّم زحف “فاغنر” نحو العاصمة، وعودة مجموعات “فاغنر” إلى قواعدها، ولكن ليس إلى مقرّاتها في بطرسبورغ التي سيطر عليها الجيش الروسي، وصادر منها أموالا قُدرت بأكثر من خمسة مليارات من الروبلات الروسية.

القراءة المتأنية لحركة تمرّد رجل مقرّب من منظومة الحكم الروسية، وعلى دراية تامة بأدق تفاصيل السلطة، تقول إن بريغوجين لا يمكن أن يُقدم على تلك الخطوة الانتحارية لو لم تكن لديه وعود بدعم ومساندة من مفاصل روسية حقيقية، عسكرية وأمنية وحتى سياسية، لكن المجريات على الأرض، ورغم حديث بعضهم عن انشقاقات عسكرية أو رسائل تأييد نقلتها بعض قيادات “فاغنر” من انضمام حوالي 60 ألفاً من أفراد الجيش الروسي لحركة التمرّد، إلا أنها تبقى معلومات غير مؤكّدة، وتفاصيل البنود المعلنة بمبادرة لوكاشينكو عكست بمجملها ما أراده بوتين، باستثناء إعفاء عناصر “فاغنر” المشاركة بالتمرّد من الملاحقة، ولاحقاً قرار إسقاط الملاحقة الجنائية عن قائد “فاغنر” بعد نفيه إلى الأراضي البيلاروسية، لكن ماذا عن مطالب بريغوجين؟

قال بعضهم إن ما تم إعلانه في بنود المبادرة عكس انتصاراً لبوتين وهو المطلوب، أما مطالب بريغوجين فقط بقيت مستورة، لكن متوافقا عليها، وطبيعة المرحلة والحرب الروسية في أوكرانيا تمنعان هزّات عسكرية وأمنية داخل البلاد وتحذّران منها، وبالتالي قد تتأخر بالتنفيذ لكنها لن تُغفل. وفي كل الأحوال، يكون بريغوجين وخلال أقل من 48 ساعة قد كشف ما عجزت عنه دوائر الاستخبارات الغربية من السؤال والتقصّي، وهو حالة روسيا من الداخل، ومدى إحكام بوتين قبضته على مفاصل الدولة العسكرية والأمنية والسياسية، وحتى الشعبية، وأظهرت بشكل واضح مدى التردّد بالقرارات السياسية والعسكرية وضعف الوضع الأمني وهشاشته، وإلا ما معنى أن تستطيع أرتال قوات “فاغنر” عبور حوالي 800 كم من دون قدرة على وقف زحفها نحو العاصمة التي كل ما استطاعت القيام به نشر قوات محلية أمام المباني الرسمية وقطع بعض أجزاء من طريق دولي.

مقالات ذات صلة