الانتصار المستحيل على الحقوق الفلسطينية

سمير الزبن

حرير- تصغير الآخر هو المدخل لقتله، هذا ما خلُص إليه أمارتا صن في كتابه “الهوية والعنف”، فالعنف هو نتاج “للآثار المروّعة لتصغير الناس”. هذه المعادلة التي اعتمدها جزئياً المسؤولون الإسرائيليون لقتل الفلسطينيين بوصفهم “وحوشا بشرية” يجب الخلاص منهم، حسب أقوال وزير الدفاع الإسرائيلي، يوآف غالانت، وهناك طيفٌ واسع من التصريحات لمسؤولين تصغّر الفلسطينيين وتنزع الصفة الإنسانية عنهم تبريراً لقتلهم بالأسلحة الإسرائيلية الفتّاكة.

لأن هذه الجزئية المؤسّسة لسياسة قتل الفلسطينيين، كل الفلسطينيين، لا تكفي لتبرير رغبة القتل الإسرائيلية الانتقامية المنفلتة من عقالها، فهي احتاجت إلى جزئية مكمّلة لها حتى يصبح الوضع الإسرائيلي مثالياً لجريمة قتل الفلسطينيين المستمرّة في قطاع غزة. هذه الجزئية المكملة هي رفع خطر تهديد قوة حركة حماس إلى مستوى “تهديد وجودي” يعيد التذكير بالهولوكوست، ورفع القوة العسكرية المتواضعة للحركة، إلى درجة تصويرها أنها تملك ترسانة أسلحة تهدّد وجود إسرائيل.

استخدام تعبير “الحرب” لوصف ما يجري في قطاع غزّة خادع، فالحرب تجري بين طرفين مسلّحين متقاربين، حتى لو كان ميزان القوى مختلاً لصالح طرف منهما. أما العدوان الإسرائيلي على الفلسطينيين في قطاع غزّة، فلا يمكن وصفه بالحرب، فليس هناك مجال للحديث عن ميزان قوى بين من يملك أسلحة فردية متواضعة ومن يملك ترسانة عسكرية نووية وبلد مسلح حتى الأسنان. وهذه القوة المسلحة تخوض حربها على شعب تحتله، فما زال قطاع غزّة يخضع للاحتلال الإسرائيلي قانونياً وفعلياً، وهذه السلطة الاحتلالية هي التي جعلتها قادرة على محاصرة القطاع 17 عاماً. ومن غير المفهوم، بالمعنيين، السياسي والعسكري، أن يتحدّث الاحتلال عن حربٍ مع الشعب الذي يحتله، وأن يسعى لهزيمته، في الوقت الذي يُفترض أنه انتصر عليه عندما أخضعه للاحتلال. وعندما تبرّر إسرائيل عدوانها، لا تتطرّق أساساً إلى أنها دولة احتلال في القطاع، ولا دول العالم المؤيدة لإسرائيل تتحدّث عن ذلك.

تقوم سردية الحرب الإسرائيلية على إخفاء الواقع الموضوعي، ليس لتبرير حربها فحسب، بل للتغطية على الفشل الذريع الذي مُنيت به مؤسّستها العسكرية التي تفخر بها في 7 أكتوبر، بعملية طوفان الأقصى التي لم تثبت عملياً قوة حركة حماس، بقدر ما أثبتت هشاشة قوة الاحتلال المغرور بنفسه، بأنه أقوى قوّة عسكرية في المنطقة. وأثبتت أيضاً أن كل قوة عسكرية، مهما بلغت من الكمال، فهي تملك كعب آخيل، ونقطة الضعف التي تجعلها مشلولة. لقد رأت إسرائيل “حماس” قوّة أصغر من أن تؤثر فيها، وأنها قوّة متواضعة يمكن التحكّم بها عبر الحصار، وتنظيم الوضع هناك عبر سياسة العصا والجزرة، حصار بعض الوقت، وانفراج بعض الوقت، واستخدام القطاع كيساً للملاكمة، تتدرّب به القوات العسكرية الإسرائيلية، بين حين وآخر، بضرب القطاع، واعتبار ذلك حرباً للدفاع عن النفس.

ما جرى من هجوم في بلدات غلاف قطاع غزّة مهين ومذلّ للجيش الإسرائيلي، ليس بسبب الخسائر فحسب، بل بسبب خلل ميزان القوى المختلّ بشكل هائل بين إسرائيل والقوة التي هاجمتها، فالأخيرة ما هي سوى نقطة في بحر القوّة العسكرية الإسرائيلية. لذلك، كان ما جرى مدهشاً بكل المقاييس. لقد اعتقدت النخبة الإسرائيلية أن الجدران العازلة، والرقابة الإلكترونية، والجدران العازلة من الأنفاق، وطائرات المراقبة، وأجهزة المخابرات، قادرة على حماية إسرائيل ومواطنيها من هجمات “حماس” التي اقتصرت على إطلاق الصواريخ المتواضعة، ومحاولات اقتحام الجدار متواضعة، لكنها استطاعت في حرب سابقة أسر الجندي شاليط.

لا أعتقد أن أحداً توقّع الانهيار الإسرائيلي في غلاف غزّة، والانهيار ذاته جعل الهجوم أشبه بتسونامي، حيث اجتاحت أعداد وراء أعداد من المقاتلين مناطق الغلاف، حتى بعض المواطنين الغزّيين غير المسلحين دخلوا إلى بلدات الغلاف خلال الانهيار. لم يكن هذا النجاح لحركة حماس ممكناً من دون الفشل الإسرائيلي، الذي حوّل الهجوم إلى تسونامي اجتاح المواقع العسكرية والبلدات الإسرائيلية في محيط غزّة. ويمكن إعادة الفشل الإسرائيلي إلى “غرور القوةۛ”، الذي يأتي من إحساس إسرائيل بالتفوّق، ليس على “حماس” التي لا تشكل أكثر من إزعاج لهذه القوة الإسرائيلية الهائلة المتفوّقة على دول المنطقة مجتمعة.

لا يدرك القادة في إسرائيل، ولا يريدون الإدراك، أن هناك حدوداً للقوة، وأن هناك أهدافاً لا يمكن تحقيقها عبر القوّة العسكرية العارية. وإذا أردنا تحديد الأهداف التي تسعى إسرائيل لتحقيقها من خلال العدوان على قطاع غزّة، أو ترجمتها من اللغة الإسرائيلية التي تتحدث عن القضاء على حركة حماس ومنع أي خطر جديد قادم من غزة، نستطيع القول إن إسرائيل في عدوانها تهدف إلى هزيمة الحقوق الوطنية الفلسطينية. وهذه بالتأكيد حرب لا يمكن الانتصار فيها، فهي تريد حسم صراع، لم تستطع حسمه خلال أكثر من سبعة عقود من الصراع الدامي، الذي تكررت فيه الحروب في المنطقة على أساسه، ولا يمكن تحقيق هذا النصر الإسرائيلي على الحقوق الوطنية الفلسطينية خلال الأيام المقبلة. إن القوة العسكرية تستطيع الانتصار على قوى عسكرية أخرى، ولكن من المستحيل عليها، مهما بلغت من قدرةٍ على التدمير، أن تنتصر على شعبٍ تحتلّه، وتقضي على حقوقه الطبيعية التي يطالب بها.

ما يهدّد إسرائيل ليس قوة “حماس” العسكرية، وهذه مبالغة لتبرير العدوان، بل إنكارها الحقوق الفلسطينية، فالصراع لم يبدأ مع الحركة الإسلامية، لطالما حاولت إسرائيل القضاء على الحقوق الوطنية عبر هذا الصراع وحروبه، ولن ينتهي حتى لو استطاعت إسرائيل اجتثاث “حماس”، وهذا هدفٌ مستحيل، فإنها لا تستطيع الانتصار في حربها على الحقوق الوطنية الفلسطينية، إلا بالإقرار بهذه الحقوق، من خلال عملية سياسية، أساسها آلية لنقل حقوق الفلسطيني إلى هيئاتٍ تمثّلهم، وليس عبر فوّهات المدافع.

مقالات ذات صلة