الظاهر والباطن في الدولة الحديثة

حلمي الأسمر

حرير- يقول لي رجل دولة مخضرم ساخرا: أنتم رجال الإعلام ضحايا لنا نحن الساسة، وربما شركاء متواطئون في الكذب على الشعب، يا لها من كذبة كبيرة، حين تقولون إن “الزعيمين” بحثا في لقائهما القضايا ذات “الاهتمام المشترك” أو العلاقات الثنائية، والحقيقة أن ما تم بحثه هو أبعد ما يكون عما يحسبه الناس.

قلت له: ماذا تقصد؟ ضحك مطوّلا، ثم قال: القضايا ذات الاهتمام يا صديقي، غالبا ما تكون تبادل الخبرات و”الأدوية” التي يحتاجها كبار السن، أو الأشخاص النهمون في علاقاتهم مع الجنس الآخر.

والحقيقة أن “الكذب” على الشعب لا يقتصر على ما قاله السياسي المخضرم، فالأمر أكثر تعقيدا من هذه الصورة البسيطة، فمهمة الإعلام الرسمي الأولى في بلادنا العربية ليس البحث عن الحقيقة، بل كيف يخفيها، ولا يقلّ الإعلام الغربي بشاعة عن العربي، فهو إعلام المطفّفين الذين إذا اكتالوا على الناس يستوفون، وإذا كالوهم أو وزنوهم يخسرون!

ليس الكذب مقتصرا على الإعلام، بل ما يعكسه الإعلام هو ما يبدو من جبل الجليد، ذلك أن الدولة القُطرية الحديثة في منظومة “العالم الثالث” عموما، ليست دولة واحدة، فثمّة دولةٌ تبدو للعيان ولمعرفة العموم، ودولةٌ أخرى “عميقة” (وربما دول!) تتحرّك بعيدا عن العيون، ومن الصعب، والحالة هذه، أن تصدّق شيئا مما تبثّه منصّات الإعلام الحديثة، إلا إذا بحثت عن “الممحي” من الكلام، حسب تعبير سياسي آخر، وهو لطالما تباهى بقدرته على قراءة الممحي في المشهد، لأنه يعرف أن ثمّة شيئا آخر يختفي ما بين السطور الظاهرة، أو ربما يكون مكتوبا بالحبر السري.

تُرى ما الذي يدفع الدولة، أي دولة، كي تكون مخادعة على هذا النحو؟ ما الذي تحرص أجهزتها على إخفائه عن عيون العامّة؟ ولماذا تكرّس كل عقول نخبها لتضليل الرأي العام، واللعب بها؟ مبدئيا، لا يلجأ الجهاز أو الشخص الاعتباري أو الطبيعي للكذب وإخفاء الحقيقة، إلا إذا كان هناك شيء مخزٍ يتعين إبعاده عن عيون “الدهماء”، والمُخزيات في سلوك الدول، أو بالأحرى “الدويلات”، كثيرة، وربما تستعصي على الحصر، لكنها تدور عموما حول كل ما هو مخلّ بالشرف والأخلاق، كالتعاون مع العدو، والعمل ضد مصلحة الشعب، ونهب المال العام، ومأسسة الفساد وحتى قيادته ورعايته وتربيته في دفيئاتٍ تحت أرضيةٍ بعيدا عن العيون.

وللإنصاف، لا تقتصر سياسة الكذب على الشعب على الدويلات الصغيرة التابعة، بل يمتدّ الأمر إلى سياسات الدول التي تعدّ كبرى، فثمة صُنّاع قرار ظاهرون، كالرؤساء والوزراء وكبار المسؤولين، وصنّاع قرار سرّيون لا يعرفهم الناس، يُمْلون ما يريدونه على صنّاع القرار الظاهرين للناس، وهذه آلية معروفة في التاريخ المعاصر، فهناك مستوياتٌ متعدّدة لصنع القرار، وبعض هذه المستويات تعيش في الظلام، ولها حساباتٌ مختلفة عمن يبدون من صنّاع القرار المعروفين، الذين يتداول الإعلام أسماءهم، الطبقة السرّية من هؤلاء، على الأغلب، في الديمقراطيات الحديثة، هم من يوقّعون على الشيكات التي تموّل حملات المرشّحين لقيادة الشعب. وهم، بالتالي، يحكُمون الناس عبر وسطاء، وغالبا ما يتّخذ هؤلاء الوسطاء قراراتٍ خطيرةً تخدم مموّليهم ولا تراعي بالضرورة مصلحة من ينتخبهم. وفي النهاية، هذا كله يجعل من الدولة الحديثة أقرب ما تكون إلى الغابة البشرية، التي يأكل فيها القويّ الضعيف، بغضّ النظر عن انتماء هذا الضعيف، كان من أبناء جلدة صاحب القرار، أو من قومياتٍ أخرى.

قد يبدو هذا الكلام أقرب ما يكون إلى طريقة تفكير أصحاب “عقلية المؤامرة”، ولكنها للأسف حقائق دامغة، وفي وسع أي قارئ مطالعة مذكّرات هذا الزعيم أو ذاك، بعد خروجه من المنصب، أن يلمس الفرق بين ما كان يُعلن من نشاط هذا الزعيم وما كان يحصل فعلا. خذ مثلا كذبة أسلحة الدمار الشامل التي رُمي بها العراق لشنّ حربٍ وحشية عليه، وما كلف ذلك البلد من كوارث، فضلا عمّا دفعه المعتدون أيضا من أثمانٍ وأمراضٍ لحقت بمقاتليهم، فيما كان السبب الرئيس إزاحة رأس النظام باعتباره “مارقا” وتفكيك أحد أقوى الجيوش العربية لصالح “إسرائيل”.

فداحة الكذب في الدويلات أكثر مأساويةً منها في الدول الكبيرة والصغيرة، لأن هذه الآلية تصنع زعماء يلبسون مسوح الوطنية والإخلاص، فيما هم مجرّد مستخدمين لتنفيذ سياسات تُرسم في أقبية بعيدة، أبعد ما تكون عن المصلحة الوطنية، والتاريخ وحده من يحكُم على صدق هذا الزعيم أو ذاك، ومدى تطابق سلوكه مع مصلحة شعبه، ويا لهول ما يقول التاريخ، الحقيقي طبعا وليس ما يكتب لتدريسه للطلاب، عن سلوك أعلام وكبار في السياسة والدين وحتى الأدب والفن، ظن بعضهم أنهم رموز وطنية وأبطال، ولم يكونوا في الحقيقة غير مستخدمين صغار لدى “العدو”.

مقالات ذات صلة