غزة والعودة إلى الشمال
د. منذر الحوارات
حرير- منذ اليوم الاول بعد السابع من اكتوبر طغت على العقل الاسرائيلي السياسي والعسكري وحتى المدني عبارة واحدة هي الانتقام غذّاه غضب عارم وحقد لا يمكن وصفه، الى الدرجة التي جعلت بعض القادة هناك يتحدثون عن اجتثاث غزة كمدينة بكل مكوناتها من بشر وحجر، واقترح بعضهم الآخر أن تلقى قنبلة نووية على المدينة والقطاع، وما إن بدأ العدوان على غزة حتى بدأت معه التصريحات والمنشورات تطلب من أهل المدينة الهجرة الى مصر وترك القطاع، كان الهدف الظاهر الحفاظ على سلامة الناس لكن الغاية المُضمرة هي التخلص من هذا العبء البشري الذي يشكل ضغطاً هائلاً على دولة الاحتلال من ناحيتين أنه حاضن حقيقي للمقاومة وتهجيره يعني فقدان العمق الشعبي لهذه المقاومة مما يسهل القضاء عليها وتدميرها كما أعلنت مراراً دولة الاحتلال، والثاني هو أن تواجد السكان المدنيين يعني عددا اكبر من الضحايا وهذا العدد قد يضع اسرائيل في حرج أمام المجتمع الدولي وهيئاته المدنية، بالتالي فإن إفراغ المدينة بات هدفاً استراتيجيا للأسباب السابقة ولكونه يشكل ايضاً بداية الفصل الأخير من المشروع الصهيوني في فلسطين والذي يتلخص بجعل المسافة بين البحر والنهر خالية إلا من اليهود، أما الفلسطينيون فليذهبوا الى غياهب النسيان بلا أمل أو مصير واضح.
لكن جماهير المواطنين في غزة واجهت هذا الهدف الاسرائيلي بالرفض المطلق وتمترست في مكانها لا تغادره مهما كان الثمن، وزاد من صلابة هذا الموقف الشعبي رفض كل من الأردن ومصر اي شكل من اشكال التهجير للدرجة التي اعتبر فيها الأردن ان اي عملية تهجير ستعني اعلان حرب، هذا الموقف ادى الى انهيار فكرة التهجير خارج غزة وإن مؤقتاً، هذا الرفض دفع دولة الاحتلال بالقصف بطريقة بربرية وانتقامية للأحياء والمساكن والبنى التحتية وحتى المستشفيات ودور الرعاية وكل شيء، وبقطع المياه والكهرباء والغذاء وكل ما يمكن ان يبقي الانسان على قيد الحياة، ومارست العقاب الجماعي على مجمل سكان غزة بدون اي اعتبار للقيم الانسانية والقوانين الدولية، ومع ذلك بقي الغزيون شوكة في خلق الاحتلال وتمسكوا بمواقعهم ورفضوا اي شكل من اشكال التهجير، لقد احتمى الناس بالمستشفيات والجوامع وهذه بدورها اصبحت الهدف المفضل لطيران الاحتلال، الى أن هاجمت قوات الاحتلال مستشفى الشفاء والذي يحتمي فيه عشرات آلاف النازحين، بعد اقتحام المستشفى وجد الكثير من الناس انه لابد من مغادرة مواقعهم نحو جنوب القطاع حيث ما تزال الشروط أفضل ومستوى القصف اقل، لكن الطيران الهمجي لاحقهم هناك في خطة لدفعهم قسراً نحو حدود مصر والتي رفضت وما تزال ترفض اي شكل من اشكال التهجير.
لكن مثل كل الحروب لابد ان تتخللها بعض الهدن سواء الإنسانية أو لأسباب لوجستية، وهنا كانت الهدنة لتبادل مجموعة من الاسرى والمحتجزين لدى الطرفين، لكن المفاجأة الكبرى لجميع المراقبين ولدولة الاحتلال أن هؤلاء النازحين الغزيين والذين غادروا بالأمس القريب منازلهم التي دُمرت في اغلبها، بادروا فوراً ومع ايقاف اول طلقة بالعودة الى منازلهم رغم علمهم إنها مدمرة ولا أمل في اصلاحها قريباً، ولا يمكن ابداً العيش فيها، لكنهم عادوا ولشدة غيظ وقهر الاسرائيليين بدأوا بإطلاق النار على العائدين مما ادى الى استشهاد العديد منهم لكنهم لم يأبهوا واستمروا في رحلة العودة المرة، ليس فقط الإسرائيليين من ذهلوا وأصابتهم الدهشة بل كل الفرق العالمية العاملة، فهذه العودة ليست سوى رحلة الى المجهول وربما الى الموت المحقق، ومع ذلك يمارسها الغزيون كفعل عادي لكنه يغيظ الاحتلال الذي خطط في لحظة لإفراغ غزة من اهلها، لكن ها هم الغزيون يقهرونه بدون بنادق، يقهرونه وهم عزل لا تحملهم إلا الدواب بوسائل بدائية وأقدامهم، هذه الاقدام داست بكل صلابة طموح الاحتلال في صناعة نكبة جديدة، أصر الغزيون أن يجعلوا من عودتهم هذه انتصاراً جديداً مخضباً بالدم والارادة رغم انف الاحتلال وكل من يقف معه ويسانده.