مذكرات صيف.. أحمد حسن الزعبي

في لهاث الليل الذي لا يهدأ ،شغب الساهرين، أصوات سيارات الإسعاف والنجدة،نزق الناس المارين،الأضواء الصاخبة والحادة ، التنمّر على الكائنات المسالمة،في ظل هذه المفردات القلقة ..تهرب أحياناً نسمة آخر الليل بفستان العتمة ،تقلب مذكرات الصيف القديم أمامي، أقرؤها ،أشتمها ، ثم أغمض عيني على صفحات كتبت بحبر البساطة وورق المحبة لن تعود أبداً ..

في الصيف، كان لا يقام أكثر من عرسٍ واحد في وقت واحد،كي لا ينقسم الفرح بين الناس ، فالفرح ليس شأنا شخصياً ولا مناسبة عائلية ، انه ملك للقرية كلها ، لا بطاقات دعوة ، ولا اشتراطات مكتوبة على البطاقة ،لا وقت للحضور أو موعد للانصراف ، “حبل اللمبات” هو كرت الدعوة للناس جميعاً ، عندما يشعل هو وقت الحضور وعندما يطفأ هو وقت الانصراف…من مذكرات الصيف ، إذا ما دخلت البلدة أو وقفت على هضبة مطلة لن ترى سوى حبل ضوء واحد يشبه السوار في معصم الليل وحناجر تغني وتزغرد ينساب الصوت منها حلواً ثخيناً هادئاً كما يندلق الشهد من جرار العسل..

من مذكرات الصيف ،لم تكن تنشغل العين عن العين،فالوسائد الحدود الجغرافية بين الجالسين ، والحديث نفسه بلا حدود ، في العرائش ، أمام البيوت “لمبة وحيدة” تشعل الليل وتوقظ السهر ، و”إبريق شاي” ألمنيوم ،هو المعزّب السخي الذي يرفد الساهرين بوقود الكلام وترطيب الحلوق بعد سيجارة الهيشي..لم يكن “الايفون” ولا “السامسونج” ولا “الهواوي” يخرسون الجلسة، ويقتلون الكلم في بواطنه كما ألان ، لم تكن الجلسة مجرد أجساد تتنفس وأراوح تحلق عبر “الواي فاي”..

من مذكرت الصيف، لا “ريموت” لضبط المكيف على “16” مئوي ، ولا خيار لتسليط البرودة عليك وحدك..النوم أمام الغرف أو “على ظهر الحيط” إن كان الأمر متاحاً ، على يمينك خزّان وفوق رأسك حبل غسيل يقسم الليل إلى شطرين و”الملاقط” عصافير من خشب وقفت عليه وتجمّد عمرها هناك..اذا كان ثمة غسيل فوق رأسك ، فربما ترى القمر يطلّ من حجلة سروال أخيك، أو ربما ترى المشتري من “كلـ…” أبيك ، هي المعجزة بحدّ ذاتها ان تمر الكواكب والمجرات من قمصاننا وسراويلنا …
على ظهر الحيط نراقب النجوم ، نرى الشهب الساقطة ،ننتظر نسمة برية حتى تمشط خصلات الشعر وتجفف عرق الجفون…وإذا ما هاجمنا القارص “الناموس” ونغّص ليلتنا ،نشعل كسرة أو قـُرصاً كاملاً من باكيت “الديك” الصيني الأخضر المضاد للقارص فيتصاعد خيط الدخان حولنا بهدوء ويغيب الضيف الثقيل بسبب الرائحة النفاذة..كل فرشة على الحائط كانت “مفاعل نووي” مصغر بسبب “دخان الديك” الصيني..
من مذكرات الصيف، أنك تستطيع أن تكتب شيئاً شهياً وحقيقياً عن ماضيك ،يبقى معك ولا يغيب، كنا نستل التفاصيل كما يستل الخياط العقد المقطوعة من القماش، ، كانت حياتنا دفتر كبير والأحداث كلها على الهامش…الآن ، الأحداث دفتر كبير،وحياتنا كلها على الهامش..

مقالات ذات صلة