الإطار المرسوم للسلطة الفلسطينية والدور المنوط بها

أسامة أبو ارشيد

حرير- أن تنشأ سلطة ما في كنف احتلال أجنبي شرس وَمُتَمَكِّنٍ، وبموافقة ومباركة ودعم مباشر منه، ثمَّ أن يتوقّع منها أن تكون عدوة له متمرّدة عليه، في حين يسعى هو إلى المحافظة عليها وتثبيت أقدامها، أمرٌ يخالف المنطق والمعقول. هذه قاعدة عامة لا استثناءات فيها، وإذا حاولت السلطة الوكيلة تحت الاحتلال أن تكسر حدود الإطار المرسوم لها، أو إعادة تعريفه، وقتها يكون مصيرها الإلغاء أو إعادة التطويع قسراً وبشكل عنيف. هذه حال السلطة الفلسطينية تحت الاحتلال الإسرائيلي، فهي أنشئت لدور مرسوم لها بدقّة، بسلطات بلدية وأمنية، لترفع عن عاتق إسرائيل عبء مئات الآلاف من الفلسطينيين الواقعين تحت احتلالها، ولكي تتكفّل بكسر جذوة المقاومة لديهم ومنعهم من تهديد أمنها. وعندما أدرك الرئيس الفلسطيني الراحل ياسر عرفات طبيعة الفخّ الذي نصب له في اتفاق أوسلو عام 1993 وحاول التمرّد عليه في الانتفاضة الثانية عام 2000، كان مصيره الحصار فالقتل عام 2004، وبتواطؤ من بعض أركان سلطته نفسها. ليس إدراك هذه الحقيقة مرتبطاً بانتماء فصائلي أو سياسي، وإنما هو إقرار بواقع حال، مهما حاول بعضهم التمويه عليه والشغب على المنبهين إليه وإطلاق التهم جزافاً في حقهم.

شهدت الأسابيع الثلاثة الماضية تكثيفاً واضحاً في طرح المعطيات السابقة وتوكيدها وإدانة للتواطؤ الأمني والاستخباري الفلسطيني مع الاحتلال الإسرائيلي، خصوصاً في مدينتي جنين ونابلس اللتين شهدتا اعتداءات إسرائيلية وحشية متكرّرة في محاولة لكسر حالة المقاومة المتصاعدة فيهما. لم يكن المنتقدون محسوبين على حركتي حماس والجهاد الإسلامي فحسب، ضحايا الاستهداف الأمني المباشر، ولا على فصائل معارضة أخرى كالجبهة الشعبية، إذ انضم إليهم كذلك صحافيون وكتاب فلسطينيون مستقلون، وآخرون من أبناء حركة فتح نفسها التي تقود السلطة الفلسطينية. بل إن أذرعاً عسكرية محسوبة على حركة فتح، ككتائب شهداء الأقصى في جنين، تبرّأت من الدور الأمني المشبوه الذي تقوم به الأجهزة الأمنية الفلسطينية في الضفة الغربية، ضمن ما هو واضح أنه تنسيقٌ أمنيٌّ كامل مع الاحتلال الإسرائيلي، رغم مزاعم السلطة أنها قطعت ذلك التنسيق منذ سنوات. أبعد من ذلك، يدرك الشعب الفلسطيني طبيعة الدور المناط بالسلطة الفلسطينية، ومن ثمَّ لا عجب أن يُطْرَدَ بعض قيادات فتح والسلطة الفلسطينية، قبل أسبوعين، من مراسم تشييع جنازات من قضوا في العدوان الإسرائيلي أخيرا على مخيم جنين. حتى رئيس السلطة نفسه محمود عبّاس (أبو مازن) لم يكن ليجرؤ أن يزور جنين ومخيمها، في الثاني عشر من شهر يوليو/ تموز الجاري، من دون إجراءات أمنية مشدّدة، ومن دون تنسيق مسبق مع مجموعات المقاومة في المدينة، وهو الذي لم تطأ قدماه أرضها منذ 11 عاماً.

معلوم أن عبّاس قال مراراً وتكراراً إن التنسيق الأمني مع إسرائيل أمر “مقدّس”، رغم أنه، منذ عام 2015، يعلن وقفه وقطعه، ليعود ويعلن وقفه وقطعه، وهكذا دواليك، ذلك أن التنسيق الأمني لم يتوقف يوماً ولم يُقطع، وهذا بشهادة الإسرائيليين أنفسهم، وكذلك العرّاب الأميركي. وقف التنسيق الأمني، أو التواطؤ الأمني مع إسرائيل، إن شئت مزيداً من الدقة ومن دون سقف استفزاز أعلى، يعني نهاية السلطة نفسها، وهو ما لا تريده إسرائيل، أو على الأقل سيضطرّها إلى إحياء سيناريو التخلص من “العقبات” الفلسطينية، كما جرى مع عرفات من قبل. يدرك قادة السلطة الفلسطينية هذه الحقيقة، ومن ثمَّ تراهم شديدي الحرص على إثبات الفائدة المترتبة عن وجود السلطة عبر عمليات الاعتقال والمطاردة والاستهداف التي تقوم بها للمقاومين في الضفة الغربية، وكثير منهم مطلوبون لسلطات الاحتلال. يجري هذا في الوقت الذي تشيع فيه القيادة الرسمية الفلسطينية “العملية السلمية” وأفق قيام الدولة الفلسطينية العتيدة التي ترفضها إسرائيل، وأجهضتها عبر عمليات الاستيطان الشرسة والمتواصلة في الضفة الغربية وشرقيَّ القدس.

على الرغم مما سبق، لم يتردد أبو مازن، في زيارته أخيرا مخيم جنين، في توجيه التهديد والوعيد المبطّن للمقاومة الفلسطينية، قائلاً: “جئنا لنقول إننا سلطة واحدة، ودولة واحدة، وقانون واحد، وأمن واحد واستقرار واحد. أحب أن أقول للقاصي والداني: كل من يعبث بوحدتنا لن يرى إلا ما لا يعجبه، لن نسمح ولن نقبل إطلاقاً، وأقولها بصراحة أكثر، إن اليد التي ستمتدّ إلى وحدة الشعب وأمانه واستقراره ستقص من جذورها”. المفارقة أن أبا مازن أطلق هذه التحذيرات متغافلاً عن حقيقة أن أجهزة أمن السلطة، التي يُفترض أنها مكلّفة بحماية أبناء شعبها، تختفي حين تقتحم إسرائيل المدن الفلسطينية، ثمَّ تنتشر لمطاردة واعتقال من عجزت دولة الاحتلال عن الظفر بهم. من ثمَّ، لا عجب أن يقرّ مجلس الوزراء الإسرائيلي المصغّر، قبل أقلّ من أسبوعين، قراراً بالعمل على منع انهيار السلطة الفلسطينية، التي وصفها الرئيس الأميركي جو بايدن، أخيرا، بأنها “فقدت مصداقيتها”. أما دوافع القرار الإسرائيلي للحفاظ على السلطة الفلسطينية، حسب مستشار الأمن القومي لدولة الاحتلال تساحي هنغبي، فتتلخّص في “الدور الأمني المهم الذي تلعبه”.

باختصار، لم تسمح إسرائيل بقيام سلطة فلسطينية كي تكون نواة دولة قادمة، وإنما لرفع كلف الاحتلال عن كاهلها. “الراعي” الأميركي لما تسمّى عملية السلام هو نفسه من أشرف، ولا يزال، على بلورة الدور الأمني المناط بتلك السلطة وتأطيره. وهناك شخصيات وجهات في السلطة الفلسطينية متورّطة في ترسيخ الدور المشبوه الذي تريده تل أبيب وواشنطن منها. رفض الاعتراف بهذه الحقائق والتردّد في التصدي لها يعد تواطؤاً في الجريمة التي تُرتكب بحقّ القضية والشعب الفلسطينيين. والواقع هو الواقع، أحببنا أم كرهنا، من يرتضي امتيازاتٍ يُنعم عليه بها عدوه ومحتل أرضه وقاتل شعبه، لن يكون في وارد التنازل عنها، ولا يمكن أبداً أن يستأمن على القضية وطموحات التحرّر والانعتاق. إننا أمام سلطة جمعت بين شَرَّيْنِ: كونها امتداداً لنظام القمع العربي، وأنها انحرفت عن بوصلة التحرير إلى المساهمة في تأبيد الاحتلال.

مقالات ذات صلة