الحرب على غزّة تجديد لحرب 1967

محمود الريماوي

حرير- إذ جاءت عملية طوفان الأقصى لتعيد التذكير بحرب 1973 بعد نصف قرن على وقوعها، فإن الحرب الإسرائيلية الدائرة حاليا على قطاع غزّة هي أقرب ما تكون إلى حرب العام 1967، من حيث الأهداف المرسومة، علماً أن الدولة الإسرائيلية قد نشأت على أرض فلسطين نتيجة حرب، بما يجعل نشأة هذه الدولة ونموّها وتوسّعها ومجمل تاريخها مرتبطة بخوض الحروب.

وإذ سعت حرب 5 حزيران، قبل 56 عاما، إلى الاستيلاء على البقية الباقية من فلسطين، ومعها سيناء المصرية والجولان السورية، فإن الحرب الحالية التي يجري تظهيرها حربا على حركة حماس، إنما تهدف بدورها إلى الاستحواذ مجدّدا على قطاع غزّة بعد نحو 18 عاما من الانسحاب الإسرائيلي منه، أو ما يسمّيها الإسرائيليون “خطّة فكّ الارتباط الأحادية”.

وكما أدّت حرب 1967 إلى موجة نزوح واسعة، وبالذات من الضفة الغربية باتجاه الأردن، فإن الإسرائيليين عازمون على تهجير أبناء القطاع بوضعهم أمام خياري الموت أو المغادرة، وذلك تتويجا للنهج الرامي إلى السيطرة على كامل فلسطين التاريخية، والإبقاء على أقل عددٍ من السكان. وقد أبدى متطرّفون إسرائيليون، في الآونة الأخيرة، ندمهم على بقاء مئات آلافٍ على أرض وطنهم بعد قيام الدولة الإسرائيلية. على أن الفلسطينيين عازمون على عدم مبارحة وطنهم مهما بلغت التضحيات، فيما ترفض مصر والأردن استقبال موجة تهجيرٍ قسريٍّ جديدة.

تختلف هذه الحرب عن سابقتها بأنها، في الرؤية الإسرائيلية، أضيقُ نطاقاً، إذ ثمّة جبهةٌ واحدةٌ محدودةٌ هي جبهة غزّة، وهو ما يفسر التناغم الأميركي الإسرائيلي على منع اتّساع رقعة الحرب بمختلف الوسائل، والمقصود الحؤول دون مشاركة إيران، عبر حزب الله، في هذه الحرب. ولم يسبق لإيران ولا للحزب أن شارك في أربع حروب سابقة على قطاع غزّة، إلا أن الحسابات قد تتغيّر هذه المرة في الفصل الأخير من الحرب.

ولأن هذه الحرب أضيقُ نطاقاً، ولأن قطاع غزّة يقع تحت حصار جوّي وبحري، ولأن عدوّ إسرائيل محدود الإمكانات في الميزان العسكري الكلاسيكي، فإن قادة الحرب الإسرائيليين يرونها حربا سهلة وتحقّق نتائج مرضية، وفي مقدمها الفتك بآلاف المدنيين من شعب العدو. وعلى المستوى السياسي، الظرف مختلفٌ هذه المرّة، ولصالح القوة المعتدية، والتي تتأهّب لخوض حرب شاملة. إذ تجري هذه الحرب فيما خمس دول عربية تقيم علاقات دبلوماسية معها، فيما كانت المقاطعة العربية شاملة للدولة الإسرائيلية من قبل. علاوة على عشرات الدول التي أقامت علاقات دبلوماسية مع تل أبيب خلال نصف قرن. وبينما صمد التحالف الأميركي والإسرائيلي من دون أي تغيير على مضمونه الاستراتيجي ومخرجاته العسكرية والأمنية والسياسية، فإن حليف العرب السابق، الاتحاد السوفياتي ومعه المنظومة الاشتراكية، قد اختفى. ولئن كانت روسيا في عهدها الحالي تتّخذ مواقف نقدية من تل أبيب في بعض الحالات، ومنها الظرف الحالي، إلا أنها لا ترغب في توسيع دائرة خصومها، وفي مقدّم هؤلاء الولايات المتحدة، وتربطها، منذ عقدين على الأقل، علاقاتٌ عادية مع تل أبيب، مع تعويل روسي على وجود روسٍ كثيرين في المجتمع الإسرائيلي، غير أن الموقف الروسي يبقى، في نهاية المطاف، قريبا من الموقف الفلسطيني.

وهذا حال الصديق الدولي الآخر، وهو الصين، التي لم تكن تقيم علاقات آنذاك مع تل أبيب، فيما تربطها حاليا علاقات تعاون اقتصادي وأمني مع تل أبيب، رغم التباعد في المواقف السياسية العلنية تجاه النفوذ في الشرق الأوسط، إلا أنه لا يصل أبدا إلى حد التأزّم في العلاقات التي تبقى مستقرّة. وإذ بادر الرئيس الأميركي جو بايدن والمستشار الألماني أولاف شولتز ورئيس الوزراء البريطاني ريشار سوناك ووزيرا خارجية كندا وألمانيا ورئيسة البرلمان الأوروبي لزيارة تل أبيب، للتضامن معها في حربها على قطاع غزّة، فإن أيا من المسؤولين الروس أو الصينيين لم يقم بزيارة عواصم عربية، ناهيك عن زيارة رام الله.

مما يخفف من قتامة المشهد أن الرأي العام العربي قد انتفض احتجاجاً على هذه الحرب، وعلى مساعي تل أبيب لتحقيق تصفية مادية للقضية الفلسطينية، وقد شهدت دول المشرق العربي، إضافة إلى تونس والمغرب والجزائر وموريتانيا وليبيا، مسيرات حاشدة ومتتابعة، انتصارا لقضية العدالة في فلسطين. وكانت المسيرات في المغرب مميّزة، لشمولها نحو 50 مدينة في البلاد، مع ظهور إسرائيل مجدّدا في الوعي العام بصورة العدو، رغم مضي عقود على بعض التطبيع العربي الرسمي معها، وهو ما قد يسهم في تصليب الموقف العربي الرسمي في هذه المرحلة، ويبعث رسالة سخطٍ شديدة إلى تل أبيب مفادها أن شيئا لم يتغيّر في قناعات الرأي العام العربي، ورؤيته الدولة الصهيونية المدمنة على عدوانيّتها وعنصريتها.

وعلى الجملة، إذ تجد حرب العام 2023 لها غطاء غربياً أميركيا وأوروبياً (غرب أوروبا بالذات، دون جنوب القارّة وشرقها وحتى شمالها الإسكندنافي) بما يعيد إلى الأذهان صورة حرب 1967 مع بعض التعديلات، فإن الطرف الفلسطيني يجد غطاء سياسيا له في مواقف روسيا والصين وتركيا وإيران وماليزيا وإندونيسيا وباكستان، ودول في أميركا الجنوبية، منها كولومبيا التي تستحقّ التحية على مبادرتها قطع العلاقات الدبلوماسية مع تل أبيب. وقد جاء الاجتماع الطارئ لمنظمة التعاون الإسلامي في جدّة على جانبٍ من الأهمية في رمزيته السياسية، إذ عبّر هذا الاجتماع عن مواقف أكثر وضوحا وأشدّ حسماً من مجمل الموقف العربي حيال المخاطر الداهمة التي تحيق بقطاع غزّة وأهلها.

مع استذكار مفارقة مهمة، وهي أن حرب العام 1967 قد استغرقت ستة أيام فقط، فيما تنذر هذه الحرب باستمرارها أسابيع وربما شهورا. وإذ أدت الحرب السابقة إلى بروز ظاهرة المقاومة المسلحة، فإن الحرب الإسرائيلية للعام الجاري تدور مع الطرف المقاوم، وعلى أرض فلسطين. وكما أن حرب إسرائيل على شعب فلسطين لم تتوقّف يوماً، فإن تداعيات العقود الماضية تبرهن أن السلام يبدأ أولاً مع فلسطين (الضحية الكبرى للصراع)، وإلا فإنه يبقى سلاماً مجزوءاً وملتوياً وغير قابل للبناء عليه.

مقالات ذات صلة