هشاشة إسرائيل ومعضلة واشنطن

أسامة أبو ارشيد

حرير- المبالغة الأميركية في تعاطيها مع اقتحام كتائب عزّ الدين القسام، الجناح العسكري لحركة حماس، (7 أكتوبر/ تشرين الثاني الجاري)، حدود قطاع غزة مع إسرائيل، واحتلالها قواعد عسكرية ومستوطنات يهودية لبرهة، فضلا عن قتل وأسر مئات من الجنود الإسرائيليين والمستوطنين، تؤشّر إلى أن واشنطن صُدمت بالهشاشة الاستخباراتية والعسكرية الإسرائيلية، وخشيت تداعياً لدولةٍ تشكّل حجر الزاوية في مقاربتها الأمنية في الشرق الأوسط. ومن ثمَّ، وجدت الولايات المتحدة نفسها مضطرّة لأن تتدخّل بشكل مباشر لمنع أي انهيار إسرائيلي محتمل، في حال توسّع الصراع ليكون حرباً إقليمية. طبعاً، لا ينتقص ما سبق من أهمية عاملين آخرين: خلفية جو بايدن “الصهيونية” وشغفه بإسرائيل، وهو أمر ما فتئ يردّده. وحسابات سياسية انتخابية، على بعد عام، تقريباً، من الانتخابات الرئاسية الأميركية. لكن الهاجس الأميركي من الهشاشة الإسرائيلية أكثر أهمية في السياق الجيوسياسي والاستراتيجي، إذ ستكون له تداعيات على الأولويات الأميركية في العالم، تحديداً لناحية الحفاظ على نظام أحادي القطب دولياً، آخذٍ في التآكل والتقلّص.

لا يمكن التقليل من آثار هجوم السابع من أكتوبر، المعنوية والمادية، على إسرائيل، فلأول مرة منذ إعلان دولتها عام 1948 تتمكّن قوة ما من احتلال أراض تعدّ جزءاً منها، سيادياً وقانونياً، وتُثخن فيها وتكسر هيبتها العسكرية والاستخباراتية. والمهين أن هذه القوة ليست إلا فصيلاً فلسطينياً تحت الحصار في قطاع غزّة، الصغير جغرافياً، منذ أكثر من عقد ونصف العقد، وهو منذ نشأته (حماس)، أواخر ثمانينيات القرن الماضي، يتلقّى منها الضربات تلو الضربات، وصلت إلى حد شنِّ حروب عسكرية طاحنة ضده منذ أواخر عام 2008.

من المفهوم أن ضربة “حماس” كانت مباغتة، وأخذت إسرائيل على حين غرّة. لكن ما كان غير متوقع ذلك الارتباك القيادي الإسرائيلي، سياسياً واستخباراتياً وعسكرياً، وفقدان الدولة كلها التوازن. ومن المعلوم أن إسرائيل تملك أكبر وأحدث ترسانة عسكرية في المنطقة، وهي تتلقّى ما قيمته 3.8 مليارات دولار مساعدات عسكرية أميركية سنوياً. ليس هذا الرقم سقف المساعدات العسكرية الأميركية، بل هو أرضيّتها، إذ اضطرّت واشنطن غير مرّة، كما في عامي 2021 و2022، إلى أن تقدّم مساعدات عسكرية إضافية لإسرائيل، لتعويض بعض ما استنفدته من ذخائر في اعتداءاتها المتكرّرة على قطاع غزّة. وإذا أخذنا في الاعتبار نسب التضخّم، فإن إسرائيل حصلت على مساعدات عسكرية من الولايات المتحدة، ما بين أعوام 1946 – 2022، بما يتجاوز 243.9 مليار دولار، حسب موقع USA Facts.

تقوم استراتيجية المساعدات العسكرية الأميركية في الشرق الأوسط وشمال أفريقيا على الحفاظ على “التفوق العسكري النوعي” لإسرائيل على الدول المجاورة. ويتضمن هذا النهج منح إسرائيل إمكانية الوصول، أولاً، إلى تكنولوجيا الدفاع الأميركية أو الإصدارات الأكثر تقدمًا منها. كما أن الولايات المتحدة تعوّض إسرائيل بزيادة حزم الأسلحة والمساعدات العسكرية لها في حال ما باعت أسلحة لجيرانها. وقد جرى تقنين هذه الاستراتيجية أميركياً في “قانون نقل السفن البحرية” لعام 2008، الذي يحظر الصادرات الدفاعية إلى دول في الشرق الأوسط، من شأنها الإضرار بميزة إسرائيل العسكرية وتفوّقها النوعي. دع عنك، طبعاً، التعاون الاستخباراتي الوثيق بين الدولتين، والسماح لتل أبيب بالتعاقد المباشر مع أكثر شركات الأسلحة الأميركية تطوّراً.

لأجل ذلك كله، دائماً ما نظرت واشنطن إلى إسرائيل أنها قاعدة عسكرية متقدّمة لها وموثوقة في المنطقة. ولم تهتزّ هذه الصورة قليلاً، إلا في أكتوبر/ تشرين الأول عام 1973، عندما شنّت كل من مصر وسورية هجوماً مباغتاً عليها، ما اضطرّ الولايات المتحدة أن تقيم جسراً جوياً مع إسرائيل لنقل المعدات العسكرية والسلاح لها، مما مكّنها من تعديل ميزان القوى، والتحوّل من الدفاع إلى الهجوم. لكن ما جرى في 1973 كان في مواجهة دولتين مركزيتين في المنطقة حينئذ. كما أن واشنطن لم تضطرّ، حينها، إلى نشر قوات تقاتل مع إسرائيل أو لردع أعدائها. أما في أكتوبر 2023، أي بعد 50 عاماً بالتمام والكمال، فإن الحال اختلف تماماً، بشكلٍ ألجأ إدارة بايدن إلى أن ترسل حاملتي طائرات مع مجموعتيهما المقاتلة إلى المنطقة، بالإضافة إلى نشر مزيدٍ من الطائرات الحربية وآلاف الجنود، بهدفٍ معلن، وهو ردع أطراف خارجية، وتحديداً إيران وحزب الله، عن دخول المعركة إلى جانب فصائل المقاومة في قطاع غزّة.

ما سبق هو دليل عدم ثقة أميركية بقدرة إسرائيل على خوض حربٍ على جبهاتٍ متعدّدة. كما أن نشر بضع مئات من الجنود الأميركيين في جنوب إسرائيل، على الحدود مع قطاع غزّة، لتقديم المعونة اللوجستية والاستخباراتية للجيش الإسرائيلي في معركته مع فصائل المقاومة الفلسطينية يؤشّر إلى حجم الشكوك التي تساور واشنطن حول قدرة القوات الإسرائيلية وكفاءتها في حسم المعركة، رغم تسليحها النوعي الذي لا يُضاهى في المنطقة كلها. لكن هذا يأتي بثمن جيوسياسي باهظ للولايات المتحدة.

منذ عام 2012 وواشنطن تحاول ضبط بوصلتها الاستراتيجية باتجاه منطقة شرق آسيا لاحتواء الصين الصاعدة على المسرح العالمي، اقتصادياً وسياسياً وعسكرياً. وفي سبيل إنجاز ذلك، حاولت إدارة باراك أوباما حلحلة بعض ملفات الإقليم العالقة، كالملفّ النووي الإيراني، وإقامة حلف أمني إقليمي، يشمل دول الخليج ودولاً عربية أخرى، وتكون إسرائيل طرفاً فيه، إن لم تكن مركزه. وخلال فترة رئاسة دونالد ترامب، سعت إدارته إلى تطبيع العلاقات العربية – الإسرائيلية، تحت لافتة “الاتفاقات الإبراهيمية”، وإلى دمج دول الخليج وإسرائيل في نظام دفاع صاروخي جوي مشترك للتصدّي لإيران. مرّة أخرى، كان طموح واشنطن يتمثّل في إقامة نظام أمني إقليمي مرتبط بها، تكون إسرائيل مركزه، ويعفيها من عبء الوجود العسكري الكثيف في المنطقة، وبالتالي توجيه قدراتها العسكرية نحو احتواء الصين. أربكت هذه المقاربة الأميركية بعض حلفائها العرب، وتحديداً بعض الدول الخليجية التي رأت في إسرائيل حليفاً قادراً على ملء بعض الفراغ الذي تخلفه الولايات المتحدة وراءها. وفعلاً، سعت إدارة بايدن، التي أعلنت الصين “التحدّي الجيوسياسي” الأساسي للولايات المتحدة، وبدرجة أقلّ روسيا، إلى الدفع بهذا الاتجاه، خصوصاً عبر تطبيع العلاقات بين السعودية وإسرائيل، وعزّزته بمكون اقتصادي كذلك، هو الممرّ الاقتصادي بين الهند والشرق الأوسط وأوروبا، والذي تمَّ طرحه في قمة العشرين التي عقدت في نيودلهي، في الشهر الماضي (سبتمبر/ أيلول)، لمنافسة مبادرة الحزام والطريق الصينية.

لكن المراهنة الأميركية وبعض العربية على إسرائيل كمعادل موضوعي للقدرات والنفوذ الإيراني في المنطقة بدا أنها تتداعى بعد هجوم “حماس” أخيرا، خصوصاً أنه جاء بعد أشهر طويلة من الانقسام الإسرائيلي الداخلي على خلفية ما كانت تصفها حكومة بنيامين نتنياهو بـ “الإصلاحات القضائية”. هذا ما دفع إدارة بايدن إلى العودة إلى المنطقة لتمكين إسرائيل من ترميم صورة الردع التي مسّت بشكل كبير، وكي تمنع فتح جبهاتٍ جديدة ضدّها، بما قد تنتج منه حربٌ إقليمية قد لا تتمكّن إسرائيل من احتمالها. المعضلة بالنسبة لواشنطن أنها تغامر بالتورّط في حربٍ إقليمية، إن اندلعت، في حين أن حجم القوات والقدرات العسكرية التي نشرتها في المنطقة لا تكفي لخوض مثل هذه الحرب مع دولةٍ مثل إيران ووكلائها. حينها، قد تضطرّ الولايات المتحدة إلى إرسال عشرات الآلاف من الجنود الأميركيين إلى المنطقة، ونشر قدرات عسكرية هائلة فيها، وهذا إن تمَّ سيجهض استراتيجيتها القائمة على احتواء الصين في شرق آسيا، واستنزاف روسيا في أوكرانيا.

باختصار، صحيح أن الولايات المتحدة متورّطة وشريك مباشر في العدوان الإسرائيلي الوحشي، الذي يصل إلى حدَّ الإبادة في قطاع غزّة، إلا أنها تفعل ذلك على حساب مصالحها الاستراتيجية الكبرى، وهي ستبقى مستنزَفة في الشرق الأوسط، ما دام أنها تصرّ على الاستمرار في انحيازها الأعمى وانقيادها وراء دولةٍ ناشزةٍ وعدوانية، وفوق ذلك عديمة الامتنان والتقدير لمصالح راعيها وحاميها، رغم أنها غير قادرة على الحياة دونه. إنه ذلك الخلل الرهيب في ميزان العلاقة بين الدولتين، الوكيلة والمُوَكِّلَةِ، أين نجح الوكيل في التأثير على مُوَكِّلَهِ عبر العبث بمعادلاته الداخلية وتوظيف تناقضات أطرافه المختلفة ضد بعضها بعضا. ومع ذلك، لا ينبغي أن نقلّل من حقيقة أن السياسة الخارجية الأميركية لا تقلّ عدوانيةً عن إسرائيل.

مقالات ذات صلة