من “الريعيّة” إلى “دولة الرعاية”.. محمد أبو رمان

ربما من أكبر فوائد طرح رئيس الوزراء د. عمر الرزاز مفهوم “العقد الاجتماعي الجديد” أنّه لفت الانتباه إلى أحد أهم الموضوعات غير المطروحة بصورة عميقة للنقاش العام، في أوساط النخب السياسية والإعلاميين، وهو مفهوم “الدولة الريعية”، عبر الدعوة إلى الانتقال من هذا النموذج إلى “دولة الرعاية”..

ما الفرق بين الريعية ودولة الرعاية؟..

هذا سؤال برسم العصف الفكري والنقاش، بخاصة أردنيّاً، ونحن نتحدث عن سياسات الاعتماد على الذات، وسيادة القانون والمواطنة، والتكافؤ في الفرص، وسياسات التشغيل بدلا من التوظيف، وإعادة هيكلة سوق العمل، وتعزيز التعليم التقني والمهني بفروعه المختلفة، وثورة بيضاء في المناهج، ومكافحة الفساد الإداري، وغيرها من مفاهيم ارتبطت بصورة عضوية بديناميكيات الدولة الريعية ومنطق سياساتها.

الزميل والمثقف الجادّ محمد عمر كتب قبل أعوام عن مفهوم الدولة الريعية وشكّك في أنّ هذا النموذج مطبق في الأردن من خلال استدعاء أرقام الموازنة والإيرادات والنفقات، ليصل إلى القول بأنّنا أصلا لسنا دولة ريعية، ولا حتى شبه ريعية. وهو محقّ جزئيا في بعض الجوانب، لكنّ هنالك جوانب أخرى مترابطة قد تصلح بدورها لتفسير الحالة الأردنية تحديداً.

ماذا نقصد – بدايةً بالعلاقة الريعية- أو الاقتصاد الرعوي؟.. كما يعرّفه أغلب المتخصصين الاقتصاديين هو “مفهوم اقتصادي، يعني إيرادا من خارج دورة الاقتصاد الإنتاجي. بيع مواد خام أولية أو بيع مقدرات وطنية، بيع مؤسسات الدولة و/ أو الموقع الجيوسياسي لصالح وظيفة لدى المركز الرأسمالي، تسليع أيد عاملة وخبرات وكفاءات خارج دورة الإنتاج الوطني…الخ”. بمعنى أنّ الدولة تعتمد في إيراداتها وناتجها الإجمالي على مصادر من خارج الدورة الإنتاجية، بما فيها الصناعات والتجارة والضرائب، وهذا – وفقا لما وصلت إليه الموازنة الأردنية في الأعوام الأخيرة- لم يعد موجودا أصلا.

لكن التعريف الاقتصادي- الاجتماعي يتجاوز ذلك (كما يوضّح أحد أبرز المفكرين والباحثين العرب الذين تناولوا الموضوع وهو جورج قرم في كتابه “في نقد الاقتصاد الريعي”) إلى تأطير علاقة المواطن بالدولة، سياسياً وثقافياً واقتصادياً، ويرتبط بعلاقة زبونية بين الدولة والمواطنين، أو شريحة من المواطنين، تعوّدوا على سياسات تقوم على الهبات والتعامل مع الدولة بوصفها الموظّف الأكبر، ونفقات لا تتناسب مع حجم الموارد، التي قد تأتي من ريع النفط مثلاً، أو مساعدات خارجية (بسبب الموقع الجيو استراتيجي، ويضيف البعض إلى ذلك حوالات العاملين في الخارج، التي لا تدخل فعلياً ضمن دورة الإنتاج المحلي)، بينما تعوّدت الدولة على سياسات إنفاق لا تتناسب مع الإيرادات، وهي المؤشرات القريبة من الحالة الأردنية.

إذا توافقنا على أن الريعية مفهوم مركّب، وله نماذج وأشكال متعددة، فإنّه يعني أنّ هنالك اختلالاً في المعادلة الاقتصادية، في جوانب جوهرية، ما يؤثر على التنمية، ويترتب على ذلك وهو الأهم – وجهة نظري- اختلالاً سياسياً تنشأ عنه “علاقة زبائنية” بين الدولة وشريحة اجتماعية عريضة، وثقافة عامة فيها خلل أيضاً بخاصة في تصور علاقة الدولة بالمواطن، وهي “أعراض” الحالة الأردنية.

لا يعني ذلك – بحالٍ من الأحوال- أنّ المطلوب هو تخلّي الدولة عن دورها الحيوي في الرعاية الاجتماعية، في التعليم والصحة والنقل والطاقة، ودعم الطبقات الفقيرة والمتوسطة، بل هو المطلوب تماماً، لكن بالتوازي والتزامن مع إصلاح جوانب الخلل التي ترتبت على العلاقة الريعية والانتقال إلى نموذج الرعاية عبر تصحيح علاقة المواطن بالحكومات، وعلاقة السلطات التنفيذية بالتشريعية.

في الجانب المالي صحّحنا اختلالات كبيرة، ونسير نحو تخلص الدولة من المساعدات الخارجية بدرجة كبيرة واعتمادها على الموارد المحلية، لكن في الجوانب الاقتصادية والسياسية والثقافية ما نزال بحاجة إلى إصلاحات حقيقية.

مقالات ذات صلة